فاجعة مجدل شمس: نزع وزرع الثقة بين الترياق والسم
التركيز واستثمار الكيان لفاجعة مجدل شمس تبرز حجم وأهمية معركة السرديات والثقة، كما تضع مسؤولية كبيرة على عاتق المقاومة والمنحازين لها.
جاءت الفاجعة المريرة في مجدل شمس في ظل حرب لم تشهد المنطقة مثلها منذ زرع الكيان الصهيوني بين ثنايا الأمة العربية؛ هذه الحرب التي ظهر فيها حزب الله بشكل فعال ضمن جبهة الإسناد التي فتحت منذ الثامن من أكتوبر.
وفي إطار إدارة هذا النوع من الحروب، أثبت الحزب وبشكل تراكمي مهارة عالية في ما يطلق عليه الحروب الهجينة. هذه المهارة ليست جديدة، فقد شهد لها العدو والصديق حتى في حرب تموز 2006، عندما وضعت في العديد من المقالات الأكاديمية والكتب المهمة المتعلقة بالحروب الهجينة، وكان أحد أبرز من تطرق إلى حرب عام 2006 الأكاديمي ورجل الأمن الأميركي جوزيف ناي في كتابه الشهير "مستقبل القوة"، واضعاً حزب الله كأحد أهم النماذج في الإدارة والتطبيق في إطار حرب غير متناظرة بين طرف يمتلك قوة كبيرة، وطرف آخر يمتلك قدراً من القوة يستخدمها بأنجع الطرق لتحقيق الدفاع والهجوم على الطرف الأقوى.
طبَّق الحزب منذ بداية جبهة الإسناد مجموعة من التكتيكات التي أطرت ضمن مجموعة عناوين لزيادة نجاعة استخدامه القوة الذكية. ومن بين هذه العناوين: رماة ماهرون، الهدهد، يا هلا ومرحب، والعديد من العناوين الأخرى المهمة.
أدت هذه العناوين، وبشكل فعال، إلى بناء الثقة بين الحزب وجمهوره بشكل عام، وأثرت بشكل فعال في جمهور العدو. وأفترض هنا، بناءً على العديد من المؤشرات، أنَّ الحزب اكتسب بشكل مميز وغير مسبوق ثقة الفلسطينيين والسوريين القابعين تحت الاحتلال، وخصوصاً في مناطق شمال فلسطين المحتلة، فيلاحظ إذا قارنا بين حرب تموز 2006 وجبهة الإسناد منذ الثامن من أكتوبر أن غالبية القرى والمدن والأحياء العربية في الشمال المحتل، وحتى القرى الحدودية العربية، لم ينزح أهلها (بنسبة كبيرة) إلى مناطق أخرى كما حدث في حرب تموز 2006، كما أصبح يسمع الكثير من الأصوات التي تؤكد أن حزب الله يعرف جيداً أين يضرب.
يعدّ هذا النوع من بناء الثقة أمراً خطيراً بالنسبة إلى الكيان الصهيوني، ويدرك الصهاينة أهمية نزع وزرع الثقة في إطار هذا النوع من الحروب، ويبرز السؤال: ما أهمية الثقة ونزع الثقة في هذا النوع من الحروب؟ لنفهم كيف يمكن للعدو استثمار الفاجعة بالجولان لضرب ما يراكمه حزب الله في الأراضي المحتلة عام 1948 والجولان السوري المحتل؟
أهمية الثقة الشعبية في الحروب الهجينة
يلاحظ على هذا المستوى الاهتمام الغربي عموماً، وبحلف الناتو خصوصاً بهذا المجال. ومن بين أسلس المقالات التي نشرت في مجلة حلف الناتو، سنعتمد مقالة بلال أرسلان أحد المختصين بالحروب الهجينة، والذي يطرح الموضوع بما يمكن وصفه بالسهل الممتنع.
كتب بلال أرسلان في مقالته المنشورة في مجلة حلف الناتو بتاريخ 30 نوفمبر 2021، وتحت عنوان الحرب الهجينة - تهديدات جديدة وتعقيدات و"الثقة" كترياق، بعض النقاط المثيرة للاهتمام حول أهمية بناء الثقة بين المجتمع والدولة في إطار الحروب الهجينة التي تندمج فيها الجبهات العسكرية بالمدنية وبشكل كبير.
يفترض الكاتب أن بناء الثقة أو نزعها أمر ضروري وفعال في إطار هذا النوع من الحروب، ويصف الثقة بأنها الحصن الرئيسي في إطار هذا النوع من الحروب. الطبقات المتعددة من بناء وضرب الثقة لدى أي عدو تؤدي وبشكل فعال إلى احتمال مرجح للهزيمة أو حتى الانهيار في هذا النوع من الحروب التي تندمج فيها جبهة القتال بالمجتمع بشكل مباشر.
على سبيل المثال لا الحصر، فإن بث صور العمليات الميدانية والإبادة الجماعية في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي يتم وصفه من قبل المختصين الأمنيين الصهاينة ضمن مصطلح التأثير العميق لدى المجتمعات الأكثر اتصالاً بالتكنولوجيا ذات الطابع الاجتماعي، ويمكن لمس هذا التأثر في إطار الاحتجاجات التي يشهدها الغرب. وتبرز هنا سلسلة الهدهد وتأثيرها في المجتمع الصهيوني بشكل ملحوظ، حتى إعلامياً، مع معرفة أن إدارة وسائل الإعلام الصهيونية تخضع للرقابة الأمنية وبشدة.
على هذا المستوى، يحاول الكيان اتباع استراتيجية تشبه في العلوم الطبيعية صناعة لقاح للفيروس أو بلغة أخرى استخدام جزء من الاستهداف الإعلامي الهجين من قبل الحزب ومحاولة حرفه والتقليل منه قدر الإمكان. بعكس الخيارات الأخرى مثل عدم التطرق إلى دعاية الحزب الحربية، يحاول الصهاينة صناعة اللقاح من الدعاية الحربية عن طريق خفض فعاليتها قدر الإمكان أو استغلال أي ثغرة في رواية الحزب لضمان سردية ناجعة قدر الإمكان بهذا النوع من المواجهة، وهذا بسبب العجز النسبي في القدرة على منع الوصول إلى المعلومة المضادة.
وعي حزب الله في إطار بناء الثقة
أدرك حزب الله مبكراً ضرورة حرب الثقة بالمواجهة المستمرة بينه وبين الكيان الصهيوني، وبرز ذلك في مسميات وتصريحات الحزب على لسان أمينه العام سماحة السيد حسن نصر الله في حرب تموز 2006.
أطلق الحزب على عملية أسر الجنود وما تبع ذلك من عدوان مبيت عملية "الوعد الصادق"، وتحت عنوان الصدق وتشابك السرديات كان تصريح سماحة السيد حسن نصر الله حول دور قناة المنار في الحرب، عندما قال: لولا المنار لضاع الانتصار.
أدرك الصهاينة بشكل متزايد أهمية القدرة التأثيرية لهذا الخطاب السياسي، ما جعل الحزب مستهدفاً على هذا المستوى، بدءاً بالتحريض الشيعي السني بعد احتلال العراق عام 2003، وصولاً إلى دور حزب الله في الحرب التي شُنت ضد سوريا. وهنا، يجب الإشارة إلى أن من غير المقصود إخضاع الحزب لأي نقد في إطار هذه الحرب.
تلاحظ هنا، وفي إطار تصدي الحزب لهذا النوع من الحروب، القدرة والكفاءة التي أدار الحزب فيها أولوياته في هذا النوع من الحروب. لقد استطاع الحزب باستخدام مجموعة من الأدوات المتنوعة التقليدية والهجينة الحد قدر الإمكان من تأثير هذه الحرب، كما استطاع وبشكل ناجع تصنيف الأولويات، فقد دفع ثمن مساندته للدولة السورية، والذي تمثل بإعطاء فرصة للصهاينة للتحريض عليه طائفياً، ولكنه كسب العمق الاستراتيجي المطلوب لتعزيز قوته الصلبة والاستعداد لأي مواجهة، فقد رجح الحزب في هذه الحالة القوة الصلبة على القوة الناعمة، ويمكن إجمال النجاح بالنتائج المشاهدة الآن.
فاجعة مجدل شمس
تعدّ فاجعة مجدل شمس مفصلاً مهماً في إطار بناء الثقة أو نزع الثقة بين السكان الصامدين تحت نير الاحتلال في الجولان وفلسطين وبين حزب الله.
يلاحظ، وبشكل فعال، أن الكيان الصهيوني يحاول وبشكل كبير استخدام هذه الفاجعة في إطار الحرب على الثقة على مستوى الفلسطينيين والسوريين في الجولان والجليل، والظهور في المسرحية على أنه حامي الحمى والأخذ بالثأر، إضافةً إلى محاولة استخدامها إعلامياً في الغرب وتصوير حزب الله بأنه قاتل أطفال وبربري، كما يلاحظ في وسائل الإعلام الصهيونية التشديد على الجانب الطائفي واللعب على وتر الطائفة الدرزية العزيزة، وليعطي تبريراً لعملائه المندسين في هذه الطائفة بأن أمن الكيان وازدهاره من أمن الطائفة الدرزية.
تضع هذه الفاجعة وهذا الاستغلال حزب الله أمام مسؤوليات وخيارات مهمة، كما تضع كل إنسان واعٍ ومدرك لحجم الاستهداف أمام مسؤولياته. تزيد هذه الحادثة المسؤولية على كل حريص ومنحاز إلى الطرف المظلوم على انتقاء الكلمات واحتواء الفاجعة بأقل قدر ممكن من الضرر.
ويبرز هنا الدور المهم والمبارك لأهل الجولان خصوصاً، والفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، لإدراك حجم التسميم الذي يحاول العدو العمل على نشره في جميع المفاصل الوطنية والطائفية، وأن حرص العدو الأساسي في الداخل المحتل يتمحور في جزء مهم منه حول نزع الثقة المتراكمة بين حزب الله والسكان الفلسطينيين والسوريين خصوصاً في الجليل والجولان.
الخاتمة
إن التركيز واستثمار الكيان لفاجعة مجدل شمس تبرز حجم وأهمية معركة السرديات والثقة، كما تضع مسؤولية كبيرة على عاتق المقاومة والمنحازين لها.
يقول الإمام علي (ع): لا يضيع حق وراءه مطالب، فإن عدم الضياع مشترط بالمطالبة بالفعل الإيجابي في إطار معركة الحق، فالفعل والمبادرة في هذا السياق تعرف الأصوات المأجورة والمعادية من الأصوات المسؤولة والمنحازة في هذه الحرب التي تستخدم فيها كل الإمكانيات الحديثة لضرب إرادة شعوب المنطقة الساعية للحرية، فلا يجب الاعتماد أو الركون إلى أحقية الحق كأمر مفهوم ضمناً من دون التوضيح والفعل الإيجابي الساعي إلى التصدي والتأثير.