أزمات حادّة وعالم مُتعدّد الأصوات

هذه الجروح تجعل من الثلاثي على مسافة واحدة في مواجهة أميركا، والثلاثة مع "البريكس" يمثلون أكثر من خمسة وستين في المائة من سكان المعمورة وقوّة اقتصادية تتجاوز بكثير ما عليه أميركا وأوروبا اقتصادياً، فضلاً عن الأرمادة العسكرية.

هل بإمكان الولايات المتحدة الأميركية وأمام عواصفها الداخلية أن تمتصّ الموقف الروسي الجديد؟

الرئيس ترامب يمنع السيّدة "بيلوسي" من السفر إلى الخارج  و"بيلوسي" تبلغ الرئيس ترامب بأن مجلس النواب لا يمكن أن يسمح له بإلقاء الخطاب في قاعته .."العالم إذن في أزمة،  خوفاً من حرب شاملة تقضي على اليابس والأخضر لأن ترامب لا يميّز بين السياسة  والمقاولة !! وأميركا في أزمة الداخل  سياسياً  أمام العالم صارت عواصف لا أفكار مترهّلة.. وأميركا تناور من أجل ألا تسقط من على الشجرة ، لكن مشاكلها الداخلية  هي أيضاً  تهتزّ باستقالات  متتالية لأهم رموز البيت الأبيض.. صراع بين البيت الأبيض والكونغرس، وصراع  من أجل ألا تنفجر العرقيّات  فيها  فتتحوّل أميركا إلى "كانتونات".. والمشكلة أن أوروبا حليفتها هي أيضاً على حافات الانهيار وإن بدت بعض دولها متماسكة  مثل ألمانيا،  لكن ظهور موجات السترات الصفراء رفض لواقع  متميّز بالصعود الحاد لليمين المتطرّف يجعل الغرب كله وأميركا على صفيح ساخن.. لاشك أن التاريخ يسير بسرعة في ما يعرفه العالم من أحداث، ولكن يبدو واضحاً أن المستفيدين من هذا السير البطيء هم محور الروس، والصين، وإيران، وأن الذين يردّدون نغمات الماضي المشحون بحب الهيمنة وسوء التقدير لمفهوم الصراع على أكثر من ساحة هم الذين لا أقول يتملّكهم الفزع من تسارع الأحداث ولكن يدفع  بهم إلى التواري فيها بشكل فجائي.. إن مسايرة غبار الأحداث بدل مسايرة الجرح الدامي فيها هي بالتأكيد علامة من علامات الغباء المنظّم، وأن الذين يتصرّفون بمنطق التاريخ وقوّة الجغرافيا هم بالتأكيد القادرون على استيعاب الواقع والانتصار لنتائجه كما تفعل روسيا ،والصين، وإيران اليوم ..ليس هناك أمر يؤجّج الحكمة على مستوى الفَهمْ الدبلوماسي أكثر من ذلك الرصيد في الهدوء الذي يحمله رجل التاريخ.. الظاهر من بؤس التوتّر في الأحداث أنها بقدر ما هي مُصطنعة ولأسباب اقتصادية هي أيضاً قائمة على أسس غير واضحة بين سياسة القول وسياسة الفعل.. هناك خلط واضح بين الفكرة والمنهج في كثير من الأحداث التي تمارسها  من وراء الستار كل من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا ، سياسة لديهما قائمة على أضواء الماضي الاستعماري بغلاف ديمقراطي وأحياناً بتهديد بإسم حقوق الإنسان، أي أن المتاجرة بالقِيَم لديهما أشبه بالمتاجرة بحقول براميل الخمر، ولا مانع  لديها بشنق القانون الدولي وذبح الأخلاق في القِيَم المسيحية التي يدّعون الانتماء إليها.. ببساطة نحن أمام صنوف من الخرق لكل الأعراف والقوانين، خروق شبيهة بتلك الصيحتين اللتين صرخ بهما فرعون في وجه التاريخ "ما أريكم إلا ما أرى" "وأنا ربكم الأعلى".

هل بإمكان الولايات المتحدة الأميركية وأمام عواصفها الداخلية أن تمتصّ الموقف الروسي الجديد، خاصة و نحن نعيش الحرب الباردة من جديد، قد تتحوّل إلى حرب دامية مع تهوّر الرئيس ترامب و بتصوّرات جديدة وإمكانيات متعدّدة، و دول أيضاً فيها متعدّدة، أي أنها حرب ليست بين قطبين بل بين أقطاب متعدّدة، فالمحاور القائمة اليوم هي محاور متكافئة ومتماسكة، محور الأقطاب (الروسي، الإيراني ، الصيني) مضافاً إليها مجموعة "بريكس" ومحور الولايات المتحدة الأميركية و أوروبا  وجزء من شرق آسيا (اليابان و سيول).. منطق الحرب الساخنة مُلغى في كل من هذين المحورين، حتى وإن بدا  للبعض  حاضراً ،ومنطق الحرب الباردة داهم الجميع، والتقسيم فيه للدول التي تعاني عدم الاستقرار قائم أيضاً ، في مؤتمر" يالطا" قسّم العالم وفق رؤية المنتصرين في الحرب، واليوم التقسيم وفق الفضاء الاستراتيجي لأي من المحورين ،الفضاء الاستراتيجي  للولايات المتحدة الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية امتد من جزء من آسيا إلى مساحة أوسع في الشرق الأوسط ،وكانت رأس الحربة فيه إسرائيل باعتبارها نِتاج الغرب والقاعدة العسكرية الأمامية له في المنطقة.. روسيا ولأسباب سياسية تأخّرت في تحديد فضائها الاستراتيجي من بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ،تأخّرت لعامل اقتصادي بالأساس، في انتظار ترتيب أوراقها الاقتصادية و السياسية، ظلت بغير موقف ضد الولايات المتحدة الأميركية، خاصة في مجلس الأمن لسنوات لأنها تدرك جيداً أن التاريخ يسير وأن وجهته الحضارية في المستقبل هي لصالحها وأيضاً كل من يسير في إطار توافقي تصالحي مع رؤيتها، ووفقاً لتقاسم المصالح والشراكة المبنية على المفاهيم الأساسية لبناء الدول والقانون الدولي، كانت في مقابل هذا التحوّل إيران تحت الحصار، والذي وضعت فيه بالأساس لكونها العمق الاستراتيجي لروسيا ، وكانت كل التحاليل الغربية تؤكّد أن إيران هي المشكلة في النظام الدولي الجديد ،لأنها ببساطة إذا تمكّنت من ولوج رحاب المعرفة  فلن تكون إلا قوة إقليمية  ضاربة ، بما لديها من خارطة جيوسياسية، وبالتالي يكون بإمكانها أن تجرّ خلفها كل الشرق الأوسط، وقد توضّح هذا الموقف لاحقاً عبر محور المقاومة (الحلف الثلاثي ،الإيراني، السوري ، وحزب الله).

أسوأ الظروف و أكثرها انكساراً

لقد تمكّنت إيران في أسوأ الظروف وأكثرها انكساراً من بناء قوّتها ،والمحافظة  على نسيجها الاجتماعي، وبنت قاعدة أمامية لها ، ممثلة بحزب الله ، مقابل القاعدة الأميركية والغربية الأمامية لهما وهي إسرائيل، وفي سنوات قلّة صارت القاعدة الأمامية لإيران واضحة المعالم وهي قاعدة في مواجهة قاعدة الغرب وفرضت عليها توازن الرعب بل أسقطت نظرية إسرائيل التي لا تُقهر، وهنا أحسّ الغرب بالخسارة المتوقّعة له في المنطقة خاصة وأن إيران قفزت إلى السطح كقوة إقليمية وكقوّة التأثير في الأحداث إلى جانب قوّة المواجهة، حتى أن أحد كبار الساسة الأميركيين، طلب من إيران رسمياً أن تعطيها أميركا قنبلة نووية مقابل التوقّف عن برنامجها النووي، لقد أفشلت إيران سابقاً ما عُرِف بالاحتواء المزدوج في عهد الرئيس الأميركي "رولاند ريغان" وأفشلت لاحقاً نظرية الحصار وفتحت الطريق أمام الآخرين كي يصنعوا من خطأ الآخر القفزات النوعية... حتى أن أحد الرؤساء الفرنسيين ذهب به القول إلى أن فرنسا مستعدّة لضرب إيران بالنووي، ثم حذف كلامه هذا لاحقاً ، فيما ظلّت إسرائيل تنبح كالكلب ضدها ،إلى أن جاءت التجربة المرة التي أسقطت الصاروخين في البحر قبل تنفيذ قرار الاعتداء عسكرياً على سوريا وكان الحدث السبب الأساس في تراجع" أوباما "عن قرار الحرب على سوريا ...ليس هذا فقط، ففي أرشيف المخابرات الأميركية من الرسائل الإيرانية ما يجعلها تُراجع كل حساباتها ، وقد بدا ذلك واضحاً منذ إنزال طائرة جي 170 من دون طيار، والتي قالت فيها الأجهزة الأميركية بأن الطائرة لا يمكن حل شفرتها وكان العكس ، وهي الآن بكل ما فيها من معلومات ضمن أرشيف القوّة العسكرية الإيرانية .. إذن، إيران في مواجهة الغرب هي قوّة وظهيراها روسيا والصين ، ثلاثية ذهبية نشأت بالأساس من عمق الجرح الذي فتحته الولايات المتحدة الأميركية لكل واحدة منها.. فالصين حرمت من حقها في مجلس الأمن لعدّة سنوات ، وروسيا أهينت في حكم "يلتسين" حتى أن هناك من الروس من مازال يتذكّر وقتها كيف أن أميركا دخلت جغرافية روسيا وصارت توزّع الشوكلاتة من على ظهر المركبات كتعبير منها على مدى الاحتقار الذي تؤمن به و تؤمنه للشعوب، أما إيران فيكفي ما عانته من الحصار وما لحقها من حروب إعلامية ، واستخباراتية وقتل لعلمائها ... هذه الجروح تجعل من الثلاثي على مسافة واحدة في مواجهة أميركا، والثلاثة مع "البريكس" يمثلون أكثر من خمسة وستين في المائة من سكان المعمورة وقوّة اقتصادية تتجاوز بكثير ما عليه أميركا وأوروبا اقتصادياً، فضلاً عن الأرمادة العسكرية.

وتبقى أمام هذا المحور أشياء جديدة، من أهمها إعادة الثقل السياسي العالمي إليه، إما بالتسويات وإما بعمليات القضم لأجزاء من أوروبا لصالح دول تنشأ من جديد، خاصة وأن أوروبا تعاني من ثقل السياسة ذات التوجّه الاستعماري أي أنه مازالت بعض دولها تؤمن أن لها حق السيادة على تلك المناطق التي كانت ذات يوم تحت قوتّها العسكرية وخاصة فرنسا،  وهي -بالتالي - لا تزال تعيش أوهام الماضي عوض البحث عن حلول لمشاكلها الاقتصادية وفتح باب المستقبل أمامها ، بناء على ذلك لازالت تؤمن بأن ما سمّي في زمن ما  بالعالم الثالث  أو منطقة الجنوب هو سوقها ومساحة خاماتها وهي نظرة غير واقعية و لا يمكن أن تتحقّق لا في القريب و لا في البعيد ، فصحوة الشعوب في أوجها  والذين يقفون من أجلها في الثلاثي المذكور سابقاً هم أيضاً يؤمنون بالمستقبل، ولكن بالشراكة  القائمة على التوافق في المصالح والأهداف.