أين مكمن الخلل؟

مع أنّ الضجيج الإعلامي يتركز على خرق الاتفاق النووي مع إيران ومستقبل هذا الاتفاق والموقف الأوروبي الحقيقي المنتظر منه فإنّي أرى أنّ المستهدف من خلال تدحرج الأحداث في المنطقة هي السعودية ودول الخليج والتي رغم غناها النفطي والمادي تعتبر دون شك الحلقة الأضعف بين الامبراطوريتين القديمة والحديثة من جهة وبين إيران.

كان لاحتجاز ناقلة النفط الإيرانية تداعياته على الساحة الداخلية البريطانية

أطلّت الإمبراطورية القديمة التي لم تكن تغيب عنها الشمس برأسها من جديد على منطقة الخليج معلنةً أنّها لا تريد التصعيد، ولكنّها تناقش مع الولايات المتحدة مسألة أمن الخليج ومرسلة في الوقت نفسه بارجة إلى مضيق هرمز بعد أن أوعزت إلى سلطات جبل طارق بقرصنة السفينة الإيرانية في مضيق طارق، ومن ثمّ اعتقال عدد من بحارتها بانتظار ما سوف تتخذه أيضاً من خطوات لاحقة لاستكمال مخططها والكشف عن نيتها في تحركات مستقبلية بالتعاون والتنسيق مع إدارة ترامب.

وكانت سلطات جبل طارق والتي هي في عداد آخر المستعمرات البريطانية قد أعلنت أنّها احتجزت السفينة الإيرانية بناء على طلب ترامب ذلك من السلطات البريطانية.

وكان لهذا الأمر تداعياته على الساحة الداخلية البريطانية، حيث سارع المرشحان لرئاسة حزب المحافظين جيريمي هانت وبوريس جنسون إلى مبارزة في إظهار عوامل القوّة والتشدّد في حرب المضائق والضغط على إيران معيدين إلى الأذهان المعادلات الاستعمارية القديمة، فالعدوان على الآخرين واغتصاب حقوقهم يعتبر من عوامل القوّة الجذابة للاستعمار خاصة وأنّ الرئيس ترامب قد أدخل في قاموس السياسة مفردات وأساليب لم تكن معهودة في فترة الحرب الباردة بل في الفترة الاستعمارية، ومع كلّ نجاح يحقّقه ترامب مع حكّام الخنوع تترسخ هذه المفردات والأساليب بأنّها الأنجح لمن يريد أن يعتلي سدة الحكم في أيّ مكان ونهب الثروات العربيّة.

ولاشكّ أنّ هذا التحرك البريطاني قد أعاد النبض إلى العالم الأنكلوساكسوني على حساب الهوية الأحدث ألا وهي هوية الاتحاد الأوروبي وبدت بريطانيا كعادتها بعد الحرب العالمية الثانية تتصرف كملحق تابع للولايات المتحدة بغض النظر عن موقف زملائها الأوروبيين والسؤال مفتوح ما إذا كان هذا الموقف سينسحب على موقف بريطانيا الفعلي من الاتفاق النووي مع إيران، وما إذا كانت ستتخذ موقفاً مع الأوروبيين، أم أنّها ستنضم نهائياً إلى موقف ترامب الذي انسحب من هذا الاتفاق؟! ولاشكّ أنّ إعلانات ترامب عن المليارات التي يستجرّها من دول الخليج أحدثت صدمة في العالم من ناحية الكم والطريقة التي يتحدث بها ترامب مع حكام الخليج وأجوبتهم وابتساماتهم التي تدع أي شعور بالكرامة الوطنية منقوصاً بالتأكيد.

ولكنّ هذا لا يعني أنّ ترامب هو المستفيد الوحيد من أموال الخليج، بل هناك آخرون مستفيدون بصمت وعلى رأسهم المملكة المتحدة والتي تعتمد كلياً مثلها مثل الولايات المتحدة على أموال الخليج لتمويل صناعاتها العسكرية، وبالتالي دعم اقتصادها.

والمحيّر في الأمر هو أنّ هذه الدول الخليجية التي تدفع المليارات دعماً للاقتصاد الأميركي والبريطاني تهرول للتطبيع مع الكيان الصهيوني لأنّه في نظرهم هو الأقدر على التأثير في القرار الأميركي رغم أنّه هو الذي يستجرّ المليارات من الولايات المتحدة، وهم الذين يدفعون ويعترفون أنّهم لا يحظون بقدرة هذا الكيان في التأثير في الولايات المتحدة، ولكن المحيّر في الأمر هو أنّ أحداً منهم لا يستشعر الأخطار المحتملة على وجودهم إذا ما نشبت حرب إيرانية - أميركية وكأنّهم يعيشون في كوكب آخر بعيداً عن إيران. أيّ أنّ هذا التهديد البريطاني - الأميركي لإيران والسيناريوهات التي يرسمونها لاحتلال مضائق الخليج ربما ما كان ممكناً لولا أنّ الخليج أصبح تماماً تحت السيطرة الأميركية والبريطانية، حيث أنّ بوارجهم لا تحتاج حتى إلى إذن للإبحار عبر بحورهم ومضائقهم، كما أنّ كلفة تحريك هذه البوارج مدفوعة سلفاً من أموال الخليج فلا الاقتصاد البريطاني ولا الاقتصاد الأميركي يتحمل دفع مثل هذه التكاليف، ولكن بما أنّ الفاتورة مدفوعة من أموال الخليج فهم قادرون أن يخططوا ما يشاؤون دون أن يتعبوا أنفسهم بالتفكير في المصادر التي يمكن أن تموّل هذه الخطط.

والأمر ذاته ينطبق على ما أسموه "صفقة القرن" فلا الولايات المتحدة ولا الكيان الصهيوني يمكن أن يفكرا بدفع المليارات من الدولارات وتجاهل الحل السياسي وحقوق الشعوب وأبرزها حق العودة الفلسطيني والقدس لولا أنّ مصدر التمويل لهذه الخطة مضمون من خارج ميزانيات الولايات المتحدة والكيان الصهيوني.

وهكذا فإنّ ترديّ حال العرب لم ينعكس فقط على غيابهم عن المعادلات الإقليمية والدولية ولكنّه تجاوز ذلك ليكون العامل الأهمّ في تجاهل حقوقهم التاريخية في أرضهم وديارهم وربما في استقدام حروب وصراعات إلى المنطقة لن يكونوا بمنأى عن امتداداتها وارتداداتها.

جميع الأديان السماوية التي يعتنقها سكان هذه المنطقة تؤكّد على حسن الصلات مع ذوي القربى وحسن الجوار وعلى العيش المشترك بين عيال الله ومع ذلك فإنّ الأشقاء ارتأوا أن يستهدفوا بلداً عربيّاً بعد الآخر وهي بلدان يعترفون جميعاً لها بالعراقة والحضارة والقوّة والانتماء والحرص على الأشقاء غير مدركين أنّهم في إضعاف البلدان الشقيقة إنّما يجلبون الضعف والهون لأنفسهم سواء أدركوا ذلك أم كانوا عنه غافلين.

والأمر ذاته ينطبق اليوم على العلاقة مع الجارة إيران، فكيف يمكن أن يكون لدول الخليج مصلحة في إشعال أتون الحرب بين إيران والولايات المتحدة، لا بل ربما وتمويل مثل هذه الحماقة ظناً منهم أنّ إضعاف إيران يصبّ في صالحهم غير مدركين أنّ الذي اخترع الخطر الإيراني أو الفارسي أو الشيعي هو الكيان الصهيوني نفسه والذي خطّط لاستبدال الصراع العربيّ - الإسرائيلي بصراع عربي - إيراني وكرّس كلّ جهود إعلامه وطابور عملائه في كلّ مكان لتثبيت هذه المقولة وتوجيه الأنظار والأحداث بطريقة تخدم تغذية هذه المقولة وتثبيتها في أذهان الجاهلين أو المتواطئين أو المرتهنين لقرارات الخصوم والأعداء.

في عام 2007 قال مهايتر محمد في محاضرة له في دمشق: "حين انتعشت ماليزيا اقتصادياً وحقّقت قفزة نوعية أدركت أنّ نموّها لا يمكن أن يكون مستداماً ما لم يكن جوارها مزدهراً أيضاً، فبدأت بالعمل على مساعدة دول الجوار لتحقيق نموّ اقتصادي يمكّن ماليزيا من التعامل معها واستدامة نموّ الجميع".

وحين حقّقت الصين قفزة نوعية في النموّ الاقتصادي وضعت خطط حزام واحد طريق واحد لإشراك دول الجوار ودول قارات أخرى في النهضة الاقتصادية الصينية كي يكتب لهذه النهضة البقاء والتطوّر.

وحين حقّق الراحل شافيز خطوات هامة في فنزويلا سعى إلى تشكيل دول الألبا في أميركا اللاتينية كي تصبح التنمية ممكنة على صعيد القارة. وفي الاتحاد الأوروبي أيضاً تدفع الدول المزدهرة اقتصادياً للدول الأقل ازدهاراً كي تصبح العلاقة بينهم ممكنة ويستمرّ النمو والتطور في مجموع البلدان.

فقط في العالم العربيّ أدّت الثروات النفطية إلى استقواء حكّام الخليج وغرورهم وتفضيلهم الفرقة على التضامن العربيّ وأدّت ليس فقط إلى التباعد والتناحر وإشعال أتون الحروب ضد البلدان الشقيقة دون أيّ مبرر منطقي يقبله العقل السليم، بل أدت إلى أن تصبح أموال الخليج العامل الأهمّ في الحرب الإرهابية ضد الأشقاء والجيران معتقدين أنّ هذا لن يؤثر عليهم أبداً تماماً كما اعتقدوا في الماضي أنّ حرب صدام ضد إيران ستصبّ في صالحهم وسيجدون أنفسهم في موقع أفضل بعدها، ولكن ماذا أثبتت الأحداث؟

رغم هذه الحرب الطويلة وتسخير كلّ موارد الخليج وأرضه أيضاً لتلك الحرب، فقد تمّ تدمير العراق بينما تمكنت إيران من بناء قواها الذاتية والوقوف في وجه أعتى التهديدات الأميركية واليوم البريطانية.

هل سيستمر الخليج في حربه على اليمن المظلوم؟ وفي تمويل الصناعات والقواعد العسكرية والأميركية والصناعات العسكرية البريطانية والفرنسية؟ ويتحمل تكاليف التحركات البحرية لكلتا القوتين ضد إيران؟ وإلى أين سيقود هذا الاستنزاف دول الخليج ذاتها التي بدأت تعاني من مشاكل اقتصادية جمّة وتراجعت نسبة النمو في هذه البلدان بشكل متسارع وكبير.

مع أنّ الضجيج الإعلامي يتركز على خرق الاتفاق النووي مع إيران ومستقبل هذا الاتفاق والموقف الأوروبي الحقيقي المنتظر منه فإنّي أرى أنّ المستهدف من خلال تدحرج الأحداث في المنطقة هي السعودية ودول الخليج والتي رغم غناها النفطي والمادي تعتبر دون شك الحلقة الأضعف بين الامبراطوريتين القديمة والحديثة من جهة وبين إيران التي تمتلك من عوامل القوة ما يردع الخصوم أو يسبّب لهم وجعاً مماثلاً إذا ما حاولوا إلحاق الوجع والأذى بها.

فمن لا يقرأ التاريخ بشكل صحيح ومعمق لا يمكن أن يفهم حقيقة أحداث اليوم أو أن يستقرئ ما ينذر به القادم من الأيام.