الذكرى التاسعة عشر لانتصار لبنان
إن أبلغ دروس الانتصار اللبناني الذي نحتفل اليوم بذكراه وعيده التاسع عشر هو تطبيقه العملي لمقولة (ما أُخِذَ بالقوّة لن يُستَرد إلإ بالقوّة) وهو ما كان وما سيظل كائناً في هذه المنطقة العربية ما بقي الكيان الصهيوني فيها. تحية للبنان جيشاً ومقاومة وشعباً في عيده الغالي التحرير والمقاومة.
بعد يومين من نشر هذا المقال تكون الذكرى التاسعة عشر لانتصار لبنان على العدو الصهيوني قد حلّت ، حاملة معها معاني ودلالات عظيمة أقربها إلى النفس تلك العزّة التي كان يشعر بها الإنسان العربي وقتها، فها هو إنتصار نظيف قد نالته الأمّة من دون أن تتلوّث عواصمها بتطبيع وسفارات وتعاون أمني واستخباري ذليل ، ها هي مقاومة شعبية فذّة تقدّم للأمّة بعد ثمانية عشر عاماً من إحتلال جنوب بلادها؛ نصراً منزّها من المهانة وذلّ المفاوضات ، كانت تلك الأيام رائعة المعنى، وكنا في عواصمنا التي ابتُلِيَت بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، نغبط لبنان على إنتصاره الكبير الطاهر ، وعلى مقاومته وقائدها الذي قدَّم أعزَّ ما يمتلك (إبنه الشهيد هادي حسن نصرالله ) فداء لوطنه، وحاولنا في تلك الأيام أن نقوم بأضعف الإيمان وهو أن نعلن مساندتنا السياسية والإعلامية لتلك المقاومة الإسلامية وحزبها؛ حزب الله، وأن نؤطّر دعمنا ونفعّله من خلال إنشاء (اللجنة العربية لمساندة المقاومة الإسلامية في لبنان ومقرّها القاهرة ) والتي إنشئت عام 1995 واستمرت للعام 2010 وتشرّف كاتب هذه السطور بتولّي موقع المُنسّق العام لأعمالها
كنا في تلك الأيام نشعر بالعزَّة والفخر، وبأن الانتصار على العدو الصهيوني؛ أمر مُمكن وأن بيته وكيانه كله كما قال وقتها سيّد المقاومة ؛ السيّد حسن نصرالله : أوهن من بيت العنكبوت، فقط لنمتلك الإرادة والإيمان والقدرة على التضحية ، ساعتها سيتحقّق النصر وسيكون نصراُ منزّهاً عن التلوّث باتفاقات السلام البائس كما جرى في كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو . دعونا نستعيد بعضاً من لحظات تلك الأيام خاصة لحظات الاندحار والهزيمة لجيش الاحتلال ولجيش لحد العميل وتراجعهم المذل أمام تقدّم مقاتلي حزب الله ، وهي لحظات عشناها عملياً حيث كنا قريبين من الحدث وأهله الكبار، آنئذ، ولعلّ في استعادته اليوم تذكرة لمَن يقلّل من عطاء تلك المقاومة وحزبها وسط معارك السياسة ومؤامراتها الصغيرة في لبنان والمنطقة، وموعظة أيضاً لمَن يريد اختيار الطريق الصحيح للنصر وهو طريق أسماه القرآن الكريم (طريق ذات الشوكة )، فماذا عنها ؟ يحدّثنا التاريخ االرائع لتلك الأيام أن الانهيار في صفوف جيش العملاء والجيش الصهيوني بدأ مساء يوم 20/5/2000م وكان يوم (السبت) وتوالت الانهيارات حتى تمّ الانسحاب المُذل والمُهين للمحتل وعملائه مساء يوم الأربعاء 24/5/2000 لتعلن الحكومة اللبنانية يوم 25/5/2000 عيداً قومياً للمقاومة والتحرير .
نتذكّر أنه في يوم الإثنين 22/5/200 تسارعت وتيرة الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني ، وتهاوت المواقع العسكرية لـما كان يُسمّى ب " جيش لبنان الجنوبي " في عمق المنطقة المحتلة على مقربة الحدود اللبنانية – الإسرائيلية ، واحداً تلو الآخر ، بعدما فقدت قوات الاحتلال السيطرة على هذه المواقع لتنقسم منطقة القطاع الأوسط في قضاءي بنت جبيل ومرجعيون شطرين : شمالي شرقي وجنوبي غربي وزحف الأهالي ابتداء من ساعات الصباح الأولى في اتجاه القرى المُحرّرة مشياً عبر الأودية والجبال الوعِرة، وفي مواكب سيّارة في ظلّ مواكبة لسيارات الإسعاف تتقدّمها جرّافات تابعة لمؤسّسة " جهاد البناء " ( حزب الله ) كانت تزيل الأتربة من الطرق، واستُقبِل الوافدون بالأهازيج ونثر الرز والورود وسط صيحات التكبير ، وتمكّن الأهالي من دخول القرى المُحرّرة على رغم القصف الكثيف للمدفعية الإسرائيلية ولسلاح الجو للحؤول من دون تقدّمهم ، ما أدّى إلى استشهاد أربعة وإصابة نحو عشرة آخرين بجروح مختلفة، ورافقت ذلك مواجهات بين المقاومين ووحدات من جيش العملاء (جيش أنطوان لحد) كانت تنسحب في اتجاه مرجعيون، وقام أكثر من مئة عنصر من " الجنوبى " بتسليم أنفسهم إلى الجيش اللبنانى ، وعدد مماثل إلى "حزب الله" وبدأ مئات من عناصر الجنوبى في الفرار عبر الوديان من مواقعهم بعدما نزعوا ثيابهم العسكرية وارتدوا ثياباً مدنية، في حين توجّه ضبّاط مع عائلاتهم عبر الحدود إلى إسرائيل، وشهد الطريق الساحلي الذي يربط بيروت بالجنوب زحمة سير خانِقة بوفود المواطنين والأهالى المتّجهين إلى القرى المُحرّرة.
ونتذكّر أن أولى البلدات التي تحرّرت (حولا)، ثم توالت البلدات، تلك كانت لحظات اليوم الأول للذلّ كما وصفته آنئذ صحافة الكيان الصهيوني ، وتوالت ذات المشاهد الفرحة في القرى المحرّرة إلى أن جاء يوم الأربعاء 24/5/2000 وتحديداً في تمام الساعة الواحدة والنصف بعد ظهر 24 أيار 2000 ، اللحظة الأخيرة في عُمر الاحتلال وكان آخر مَن رحل من جنود الاحتلال قائد وحدة الارتباط في المنطقة الحدودية (سابقاً) الجنرال بنى غينز في سيارة ترافقه دباباتان وجرافة قطعت الطريق مع لبنان ، بعد إغلاق نقطة العبور عند بوابة فاطمة المؤدّية إلى مستعمرة المطلة ، ومع حلول ساعات الفجر الأولى كانت عشرات المدرّعات الإسرائيلية تعبر الحدود ناقلة الجنود من المواقع المُحاذية لها ، وفي المقابل واصل اللبنانيون الاحتفال بإقامة أعراس النصر احتفاء بالتحرير في مختلف قطاعات الجنوب والبقاع الغربي ، ودخلت قوافل المهجرين مرجعيون وحاصبيا والعديسة والريحان والعيشية والعرقوب والخيام التي احتفل سكانها وأهالي المنطقة الذين وفدوا إليها بتحريرها ومشاهدة المُعتقل الذي ارتبط باسمها (ولقد شاهدت بنفسي زانزين بعد أيام من التحرير ذلك المعتقل في ذروة الانتصار وألقيت محاضرة هناك عن دلالات ذلك النصر الكبير )، وتوّجت عودة تلك البلدات المُحرّرة إلى وطنها الأمّ بجولة للرئيس المقاوِم إميل لحود شملت قرى علما الشعب ورميش وعين إبل وبنت جبيل ، عابراً خلالها في محاذاة الشريط الشائك بين لبنان وإسرائيل
ونتذكّر وقتها أن عدد أفراد "الجنوبي" الذين سلّموا أنفسهم إلى الجيش اللبناني والمقاومة وصل إلى حوالى 1600 ويومها فضحت الإذاعة الإسرائيلية ذلك الجيش العميل حين أكّدت أن عدد الذين لجأوا إلى إسرائيل نحو خمسة آلاف شخص توزّعوا بين مستوطنة جيشر في الجليل الغربي ومدينة نتانيا، فيما أقامت إسرائيل مخيماً جديداً لعدد من أفراد الجنوبي عند الطرف الشمالي الشرقي لبحيرة طبريا ، وأغلبهم عمل كخدم ومرتزقة لدى الصهاينة في السنوات التالية، في درس تاريخي بليغ لكل مَن يتعاون مع محتل ويبيع شرفه وكرامته ، تماماً مثلما يفعل المُطبّعون اليوم في الخليج المحتل وفي بعض بلداننا العربية الأخرى، نعتقد جازمين أن مصيرهم لن يكون أفضل من مصير جيش أنطوان لحد ، يتساوى في ذلك القادة والنخبة الإعلامية والسياسية، التي دأبت على قبول الذل وبيع الكرامة بإسم الواقيعة والسلام .
إن أبلغ دروس الانتصار اللبناني الذي نحتفل اليوم بذكراه وعيده التاسع عشر هو تطبيقه العملي لمقولة (ما أُخِذَ بالقوّة لن يُستَرد إلإ بالقوّة) وهو ما كان وما سيظل كائناً في هذه المنطقة العربية ما بقي الكيان الصهيوني فيها. تحية للبنان جيشاً ومقاومة وشعباً في عيده الغالي التحرير والمقاومة.