قبل أن يغادرنا نيسان شهر الدم والشهادة
لقد أرسل مناحيم بيغين برقية تهنئة إلى رعنان قائد الإرغون الذي ارتكب المذبحة قال فيها: "تهنئتي لكم لهذا الانتصار العظيم، وقل لجنودك إنهم صنعوا التاريخ في إسرائيل". وفي كتابه المعنوَن (الثورة) كتب بيغين يقول: "إن مذبحة دير ياسين أسهمت مع غيرها من المجازر الأخرى في تفريغ البلاد من 650 ألف عربي". وأضاف قائلاً: "لولا دير ياسين لما قامت إسرائيل".
عجيب أمر هذا الشهر في قصّة الصراع مع العدو الصهيوني، إذ هالني كمّ المذابح التي ارتكبها العدو الصهيوني فيه، صحيح لم يخل شهر بل يوم في قصة الصراع الممتد منذ وعد بلفور 1917 حتى اليوم 2019، من مجزرة إرتكبها العدو الصهيوني، إلا أن شهر نيسان/أبريل له تميّز خاص في تاريخ الصراع وهو ما جعلني أسجّل بعضاً من تلك المجازر ليس بهدف الرَصد فقط بل بهدف التعلّم والدرس وبناء ردّ الفعل الجماعي الرافِض لهكذا إبتذال بإسم السلام والتطبيع، لأننا لسنا أمام خصم سياسي طبيعي بل عدو مجرم بُنيته الأساسية قائمة على الذبح والإبادة والإرهاب ومن ثم يصبح من العبَث تخيّل سلام أوحياة طبيعية معه.
إن شهر نيسان/أبريل في قصّة الصراع كافية لمَن في قلبه وعقله ذرّة عزّة وكرامة وإنسانية، وتلك فقط أرقام، وليس قصص مطوّلة وإن كانت بالفعل تستحق، من مذابح شهر نيسان/أبريل منذ العام 1948 حيث يُذكّرنا التاريخ بمجزرة قالونيا في القدس 12/نيسان/1948، (مقتل 14 وإصابة العشرات).
وفي 13/نيسان/1948مجزرة اللجون، قضاء جنين، (مصرع 13 وإصابة العشرات)
وفي 14/نيسان/1948مجزرة ناصر الدين (مقتل 12 وإصابة العشرات)
وفي 19/نيسان/1948 مجزرة طبرية (مقتل 14)
وفي 22/نيسان/1948 مجزرة حيفا (مقتل 100 وجرح 200)
أوائل أيار/مايو 1948 مجزرة عين الزيتون (مقتل 70 وكانوا أسرى مُقيّدين)
وفي 13/أيار/1948 مجزرة صفد (مقتل 70 وإصابة العشرات). ثم امتد القتل طيلة الخمسينات ونذكر مجزرة غزّة في 5/نيسان/1956 والتي سقط فيها 60 شهيداً مدنياً، بالإضافة لعشرات المجازر في الستينات والسبعينات إلى أن جاءت الانتفاضة الأولى1987 والثانية 2000 وشهد نيسان/أبريل في الانتفاضة الأولى حوالى 25 مذبحة وفي الانتفاضة الثانية حوالى 20 مذبحة، ثم توالى القتل في نيسان وفي غيره.
ولأننا إزاء مئات المذابح التي ارتكبها الكيان الصهيوني ضد الفلسطينين والعرب، فإننا سننتقي فقط ثلاثاً منها هي الأشهَر في تاريخ الصراع ووقعت في أبريل/نيسان.
الأولى :مذبحة دير ياسـين 9 نيسان/أبريل 1948
وهي مذبحة ارتكبتها منظمّتان عسكريتان صهيونيتان هما الإرغون التي كان يتزعّمها مناحيم بيغين، رئيس وزراء إسرائيل في ما بعد، وشتيرن ليحي التي كان يترأسها إسحق شامير والذي أصبح أيضاً رئيس وزراء لاحقاً (طبعاً لأن ذبح العرب هو المعيار للوصول إلى أعلى المناصب في الكيان الصهيوني وهذه حقيقة موثّقة في تاريخ إسرائيل وليس إدعاء). وتمّ الهجوم باتفاق مُسبَق مع الهاغاناه، وراح ضحيّتها زهاء 260 فلسطينياً من أهالي القرية العُزّل. وكانت هذه المذبحة، وغيرها من أعمال الإرهاب والتنكيل، إحدى الوسائل التي انتهجتها المنظمات الصهيونية المسلّحة من أجل السيطرة على الأوضاع في فلسطين تمهيداً لإقامة الدولة الصهيونية.
ولقد أرسل مناحيم بيغين برقية تهنئة إلى رعنان قائد الإرغون الذي ارتكب المذبحة قال فيها: "تهنئتي لكم لهذا الانتصار العظيم، وقل لجنودك إنهم صنعوا التاريخ في إسرائيل". وفي كتابه المعنوَن (الثورة) كتب بيغين يقول: "إن مذبحة دير ياسين أسهمت مع غيرها من المجازر الأخرى في تفريغ البلاد من 650 ألف عربي". وأضاف قائلاً: "لولا دير ياسين لما قامت إسرائيل".
وقد عبَّرت دولة العدو لاحقاً عن فخرها بمذبحة دير ياسين، بعد 32 عاماً من وقوعها، حيث قرّرت إطلاق أسماء المنظّمات الصهيونية: الإرغون، وإتسل، والبالماخ، والهاغاناه على شوارع المستوطنة التي أُقيمت على أطلال القرية الفلسطينية.
المجزرة الثانية: مجزرة قانا اللبنانية الأولى، ووقعت يوم الخميس 18 نيسان/أبريل عام 1996، وأعقبتها سلسلة من المجازر في نفس المكان تحت مرأى ومسمع من العالم.
ومجزرة قانا الأولى وقعت في مركز قيادة فيجي التابع لليونيفيل في قرية قانا جنوب لبنان، حيث قامت قوات الاحتلال بقصف المقرّ بعد لجوء المدنيين إليه هرباً من عملية عناقيد الغضب التي شنّتها إسرائيل على لبنان وأدّت إلى مقتل 106 من المدنيين وإصابة الكثير بجروح، وقد اجتمع أعضاء مجلس الأمن للتصويت على قرار يُدين إسرائيل ولكن الولايات المتحدة أجهضته باستخدامها حق الفيتو.
أما مجزرة قانا الثانية فوقعت في 30 تموز/يوليو عام 2006 أثناء العدوان الإسرائيلى على لبنان وسقط على إثرها حوالى 55 شخصاً من بينهم عدد كبير من الأطفال، الذين كانوا في مبنى مكوّن من 3 طبقات لبلدة قانا ، حيث انتشلت جثث 27 طفلاً من بين الضحايا الذين لجأوا للبلدة بعد أن نزحوا من قرى مجاورة تتعرّض للقصف ، بالإضافة إلى سكان المبنى.
المجزرة الثالثة مجزرة جنين والتي استطاع الفلسطينيون أن يحوّلوها إلى ملحمة بطولية من الصمود حتى الشهادة، ولقد وقعت في 14/نيسان/2002، "إنها تفوق الخيال والوصف"، هكذا وصف تيري لارسن مندوب الأمين العام للأمم المتحدة بشاعة الجريمة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلية في جنين وخروجها عن كل ما هو مألوف وموجود في الحياة البشرية.
فقد تنوّعت الجرائم الصهيونية في المخيم من القتل العَمْد للعزْل إلى الاعتقال العشوائى بطُرُق مُهينة وتعذيب المُعتقلين، وصولاً إلى منع وصول الأغذية والدواء للمُحاصرين والمُصابين. ومنع تسليم جثث الشهداء لذويهم مع القصف العشوائى والمُنظّم لمنازل ومباني المدينة.
بدأت عملية الاقتحام الفعلي لجنين، فجر يوم 2/نيسان/2002، وحشد جيش الاحتلال أكثر من 20 ألفاً من قوات الاحتياط وأكثر من 400 دبابة وناقلة جنود ومجنزرة، بالإضافة إلى الدعم والقصف الجوي، واستخدام شتّى أنواع المدفعية والصواريخ، كما هو معروف.
وفي المقابل اشتعلت المقاومة بكل أشكالها، لدرجة تعرّض خلالها لواء "جولاني" الذى كان يقود عمليات الاقتحام إلى خسائر فادِحة، أوصلت رئيس الأركان الإسرائيلي شاؤول موفاز، إلى قرار بعزل العقيد يونيل ستريك، قائد هذا اللواء العسكري المُكلّف بالمهمة وعيَّن نائبه المُقدَّم ديدي بدلاً منه، وتجرّع القائد الجديد مرارة الفشل، فقام شارون بتكليف رئيس الأركان نفسه، بقيادة العمليات العسكرية ضد المخيم، وهو أمر له دلالة كبيرة على مدى شراسة المقاومة، ومدى الصعوبة التي واجهها الجيش والقيادة الصهيونية.
فقد أكّدت المقاومة الفلسطينية بأنها لن تسمح باحتلال المخيم إلا فوق جثث أفرادها، وأنها لن تنسحب على الرغم من عِلمها نيّة قوات الاحتلال اقتحام المخيم، عجز الجيش الإسرائيلى عن اقتحام المخيم لمدّة ثمانية أيام كاملة.
ذلك هو شهر نيسان/أبريل بمذابحه وبطولاته أيضاً، وهو بالقَطْع ليس إستثناء في قصّة الصراع مع العدو الصهيوني التي تجاوزت المائة عام، لكنه يستحق وعن جدارة أن نسمّيه بشهر الدم والشهادة، لأنه شهد أفظع المجازر وفي الوقت نفسه شهد البطولة مُجسّدة والتضحية حاضرة وقادرة، وهو شهر يستحق أن نُحاجِج به المهزومين من داخلهم من النُخَب الحاكِمة في وطننا العربي ومن المُطبّعين، بأننا إزاء دولة إرهاب وقتل، لا يليق بمثقّفٍ أو سياسي، بل وبإنسانٍ طبيعي أن يبني معها علاقة. فذلك هو العار بعينه، ونيسان شاهِد على ذلك.