الجزائر: بين تبديل الحاكِم وتغيير شروط الحُكم

بدا التنازل الرئاسي وكأنه انتصار لإرادة الشارع ومؤشرٌ على وجوب الضغط أكثر على الفريق الحاكِم كي يتخلّى عن السلطة، وفرصة أيضاً لتصفية حسابات قديمة.

السيناريو الأسوأ هو استغلال الحراك الشعبي للإطاحة بالدولة الجزائرية ودفع الناس لمواجهة الجيش

استجاب الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة لضغوط الشارع الرافض لولاية خامسة، جزئياً، إذ أعلن عن ترشيح نفسه لولاية تمتد شهوراً يحضّر خلالها دستوراً جديداً يُستفتى عليه الشعب، ويدعو لندوة وطنية تضمّ كل القوى التمثيلية على أن تتوّج أعمالها باستراتيجية جديدة لمستقبل الجزائر خلال العقود المقبلة، ومن ثمّ تُنظّم انتخاباتٌ رئاسية مُبكرة لا يترشّح فيها.

بدت الإستجابة غريبة الأطوار من رئيس يدعو الشعب لانتخابه كي لا ينتخب في سباق رئاسي قادم، وبدا معها التنازل الذي قدّمه غير ذي جدوى بنظر معارضيه، فما دام الأمر يتصل بإعداد دستور جديد وخارطة طريق جديدة لحُكم الجزائر، ما الحاجة لولاية جديدة وما الضامِن لأن تكون محدودة بشهور وماذا لو لم يتم الاتفاق على دستور جديد، أو وجهة جديدة لإدارة الاقتصاد والسلطة في المستقبل؟ وبدا هذا التنازل بنظر كثيرين وكأنه مناورة لإجهاض الحراك الشعبي. لذا انعقد إجماع على وجوب الإستمرار في التظاهرات إلى أن يتراجع الرئيس عن ترشيحه أو أن تُقرّر اللجنة الدستورية المشرفة على الترشيحات استبعاده من المنافسة لأسباب يتّفق عليها وتبحث في الكواليس، أو لربما يعلن الرئيس نفسه عزوفه عن الترشّح "استجابة لضغوط الشارع".

بالمقابل بدا التنازل الرئاسي وكأنه انتصار لإرادة الشارع ومؤشرٌ على وجوب الضغط أكثر على الفريق الحاكِم كي يتخلّى عن السلطة، وفرصة أيضاً لتصفية حسابات قديمة، إذ أعلنت المنظمة الوطنية لمُجاهدي الثورة رفضها لولاية جديدة للرئيس، ودعت الجزائريين إلى مواصلة التظاهر احتجاجاً على ترشيحه. هذا الموقف ترافق مع انتشار فيديو على الـ"يوتيوب" لقائد الولاية الرابعة خلال حرب التحرير "الرائد عزالدين"، حَجَّمَ فيه دور بوتفليقة في الثورة الجزائرية ودعاه للاستقالة، ومثله فعل الرائد "سي لخضر بورقعة" قائد كتائب الشبح في الولاية نفسها والذي سُجِنَ لعشر سنوات جرّاء اعتراضه على عهد بومدين وبوتفليقة في ستينات وسبعينات القرن الماضي. أضف إلى ذلك قادة كبار من جبهة التحرير الوطني  تخلّوا عن الرئيس وتتوالى الانشقاقات في المؤسّسات التي تستند إليها سلطته.

استمدّ بوتفليقة مصادر قوّته في الحُكم من عناصر خمسة أساسية: دوره في مقاومة الإستعمار وقد تعرّض لطعنة قوية من منظمة المجاهدين كما لاحظنا، والإجماع الذي انعقد حوله لإخراج البلاد من العشرية السوداء، ونرى اليوم إجماعاً مضاداً لحُكمه في الشارع. تمويله للسلم الإجتماعي من عائدات النفط في ظروف خطيرة تميّزت بالتدخّلات الخليجية والدولية في سياق ما سُمّي بالربيع العربي استهدفت دولاً ممانعة لأميركا والغرب ومؤيّدة بحزم للقضية الفلسطينية.

إن هبوط أسعار النفط المستمر منذ 6 سنوات قد حرم بوتفليقة من الوسائل الكفيلة بتلبية مطالب فئات واسعه وشابة من الجزائريين الذين جاؤوا إلى سوق العمل ، وتزامن هبوط الأسعار مع إجراءات أوروبية متشدّدة  لمنع تدفّق المُهاجرين ومن بينهم بل ربما في طليعتهم المهاجرون الجزائريون، علماً أن الهجرة إلى أوروبا كانت تمتصّ نسبة مهمة من العاطلين عن العمل في الجزائر. واستند بوتفليقة إلى المؤسّسة العسكرية وبخاصة  رئيس الأركان قايد صالح، والواضح أن الجيش ما زال يؤيّد الرئيس وقد تدخّل صالح مرتين في يوم واحد للتحذير من المساس بالأمن الوطني، وحذّر من التدخّلات الخارجية في شؤون البلاد. وأخيراً استمدّ بوتفليقة شرعيّته من سياسة بلاده الخارجية التي يبدو أن غالبية المُنتفضين في الشارع لا يعترضون عليها.

لا يكفي تدخّل المؤسّسة العسكرية لحماية الترشيح الرئاسي من غضب الشارع، لذا ربما ينتقل النقاش إلى  كيفية الخروج من الأزمة، وهنا تبدو الاحتمالات مفتوحة على سيناريوهات عديدة أفضلها أن تطوى صفحة الترشيح الرئاسي، وأن تتم العملية الإنتخابية بالترشيحات التي يُقِّرُها المجلس الدستوري وفي هذه الحال يتحقّق مطلب المُتظاهرين الأساسي الذي انطوى على رفض العهدة الخامسة وإفساح المجال أمام انتخابات رئاسية حرّة ونزيهة. هذا السيناريو يقطع الطريق على دُعاة تغيير النظام من أنصار"الربيع العربي" وبعض القوى الأجنبية التي لا تريد للجزائر أن تخرج سالمة من هذا الاختبار. يمكن للجيش الجزائري أن يحمي هذا السيناريو وهو قد لا يكون بعيداً عنه.

والسيناريو الأسوأ هو استغلال الحراك الشعبي للإطاحة بالدولة الجزائرية ودفع الناس لمواجهة الجيش والقوى الأمنية، وبالتالي الانخراط في سيرورة دموية جديدة تطيح بالبلاد والعباد. ومن غير المُستبعد أن تكون أطرافٌ خارجية بصدد الدفع بهذا السيناريو إلى الأمام، والإعلان عنه في لحظة استبعاد الرئيس من السباق الانتخابي إذا ما تمّت. وما يساعد على ذلك أن المُتظاهرين لم يحدّدوا خيارهم البديل للرئاسة فضلاً عن إحجام المعارضة عن الإتفاق على مرشّح واحد للانتخابات. هذا الفراغ يسمح باستدراج الشارع إلى لعبة  تغيير النظام ومن ثم تهديم الدولة وصولاً إلى السيناريو الليبي أو الصومالي، أي إلى الخراب الذي يخرج عملاق أفريقيا من المواجهة مع إسرائيل، ومن اعتراض سياسات الدول العظمى كلما كان متاحاً الاعتراض لحماية مصالح الجزائر والعرب.

قد يساعد تماسُك الجيش وحرص القسم الأكبر من المُتظاهرين على سلميّة التحرّك واحترام القوانين قد يساعد في الخروج من الأزمة بأقل الخسائر في المدى المنظور، لكنه لا يضمن حل الأزمة على المديين المتوسّط والبعيد، الأمر الذي يتسدعي تغييرات بنيوية في الاقتصاد واعتماد الشفافية في الحُكم والتخلّي عن الحياد في السياسة الخارجية.

إن جزائر قوية ومؤثّرة في محيطها لا يمكن أن تخضع لحركة أسواق النفط البهلوانية. إنْ ارتفعت الأسعار تشتري السلم الإجتماعي وإنْ انخفضت تَعمُّ الفوضى. تحتاج الجزائر إلى  إقتصاد متنوّع هو وحده الكفيل بتثبيت موقعها كقوّة إقليمية لا تجرؤ دول أجنبية على التدخل في شؤونها وتحديد شروط مَن يحكمها، ولعلّ الشجاعة تقتضي أن تلعب الجزائر دوراً أساسياً في حل النزاع الصحراوي الذي يُعطّل العمل المغاربي المشترك، ويحرم المغاربة جميعاً من تشكيل سوق إقليمية يمكن لها وحدها أن تحل مشاكل الهجرة والبطالة والتنمية ومُكافحة الإرهاب.

وفي السياق يمكن للجزائر والرباط الإفادة من مناخ أوروبي مُلائم لإعادة تفعيل مؤسّسات الإتحاد المغاربي.

وبالتالي إغلاق ملف الحرب الليبية لقاء حماية الأوروبيين من جحافل الهجرة التي تضغط على اقتصادياتهم ومجتمعاتهم.

 تقف الجزائر في هذه الأيام على مُفترق طُرُق يمكن منه أن تنطلق نحو مزيد من القوّة والمكانة والمنعة استناداً إلى إنجازاتها ومصادرها وثرواتها المتنوّعة، ومن هذا المُفترق يمكن أن تنحدر نحو الخراب على خطى ليبيا وسوريا والصومال.

حتى الآن ترتسم غلبة واضحة باتجاه الطريق الأول والأمل معقود على اتّساع هذه الغلبة وتجسيدها في حل يزيد هذا البلد أمناً واستقراراً.