ماكرون بين التراجع امام السترات الصفر أو التنازل عن السلطة؟
تحرك السترات الصفر مستمر رغم مرور نحو شهرين على انطلاقه، ورغم الاجراءات والتقديمات الاجتماعية التي أعلن عنها الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون في 10 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وما تراجع أعداد المشاركين في فصول تحركات نهاية العام سوى استراحة أعياد، المحتجون عادوا من جديد متمسكين بإعادة الكرة كل سبت إلى أن تتحقق مطالبهم بالعيش الكريم في بلدهم.
هذا ما أظهرته نتائج تحركات الفصل التاسع، أكثر من ذلك، فإن أعمال الشغب التي استغلتها الحكومة الفرنسية وتحديداً ماكرون ووزير الداخلية المقرب جداً منه كريستوف كاستانير لإلباس الاحتجاجات لبوس الشغب وأعمال العنف، قد سقطت بفعل السلمية التي تميز بها الفصل الأخير، ويبدو أن ميزة الهدوء والسلمية ستستمر وتتطور في الفصول القادمة بفضل انتقال المنظمين إلى مرحلة تنظيم التحركات للتخفيف من أعمال الشغب والمواجهات مع الشرطة عبر فرز مجموعات تولت مهام الأمن والتنسيق مع الشرطة، وهذا ما أدى إلى تخفيض الاحتكاك مع قوات الأمن، أما قنابل الدخان المسيلة للدموع وخراطيم المياه فقد بادرت الشرطة الفرنسية لاستخامها في نهاية النهار فقط، وفي الفترة التي تقرر فيها الشرطة عادة إنهاء التحركات بالقوة.
لماذا يواصل المحتجون تحركاتهم؟
خلال تغطية الميادين للتحركات منذ بدايتها وبفضل نقاشات جرت مع عدد كبير من المشاركين خلال الاحتجاجات في شوراع باريس أمكن رصد تطوراً مهما للمطالب الاجتماعية التي انتقلت من مجرد مطالب متعلقة بإلغاء الضريبة على المحروقات في البداية إلى إدخال تعديلات في عمق الدستور الفرنسي في الفصول الثلاثة الأخيرة.
فقد رفض المحتجون تقديمات ماكرون (رفع الحد الأدنى 100 يورو وإلغاء ضريبة الرعاية الإجتماعية على الرواتب أقل من 2000 يورو، وتقديم 1000 أو 2000 يورو كعلاوة نهاية كل عام وإعفاء أجور ساعات العمل الإضافية من الضرائب)، واعتبروها غير كافية وكما قال أحد المحتجين في جادة الشانزليزيه للميادين هي "عبارة عن Pourboire أي (بقشيش) والبقشيش لا يحل أزمة انخفاض مستوى القوة الشرائية لذوي الدخل المحدود".
وتندرج المطالب في خانتين، الأولى مالية تدعو لإتخاذ إجراءات ترفع بموجبها القوة الشرائية 15% لكل الفرنسيين، وبوضع استراتيجية واضحة حول كيفية تحصيل الضرائب، فالخوف لدى السترات الصفر من أن تعمد الحكومة إلى وضع ضرائب جديدة وبأشكال مختلفة لتحصيل تكاليف التقديمات الإجتماعية، ما يعني أن ما سيحصلون عليه "بيدهم اليمنى سيدفعونه باليد اليسرى"، ويصرون في هذا الإطار على تحصيل الضرائب من أصحاب الثروات والمؤسسات المالية الضخمة والشركات الكبرى التي يصر الرئيس الفرنسي على عدم المساس بها.
وفي الخانة الثانية، يحاول المحتجون قطع الطريق على محاولة هذه الحكومة أو الحكومات اللاحقة المس بالتقديمات الإجتماعية والإتخاذ قرارات دون موافقة الشعب، وذلك من خلال إعادة النظر بالدستور الفرنسي وإدخال مبدأ الديمقراطية المباشرة، ويستند هؤلاء على التجربة السويسرية بالاستفتاءات المباشرة، إذ يُدعى المواطنون للإدلاء برأيهم بالقضايا الأساسية مباشرة ودون المرور بالبرلمان .ويرتكز هذا النظام على إجراء استفتاء شعبي إنطلاقاً من مبادرة يتقدم بها عدد من المواطنين أو الأحزاب السياسية أو حتى الحكومة عندما تريد الحصول على رأي الشعب في قانون أو قضية معينة.
ويستند أصحاب السترات الصفر في مطلبهم اعتماد الإستفتاء الشعبي المباشر إلى فقدان الثقة بالبرلمان الفرنسي، وتقول وجهة نظرهم أن البرلمان فقد دوره كمراقب ومحاسب لعمل الحكومة، فالأكثرية النيابية تنتمي عادة إلى اللون السياسي ذاته للرئيس وحكومته، وهذه الأكثرية تصادق بشكل تلقائي على كل القرارات الصادرة عن الحكومة ولا تقوم بأي دور في المحاسبة عن تقصير السلطة الإجرائية، وبالتالي فإن البرلمان بات رهينة الحكومة والرئاسة.
بالمقابل، تتمترس الحكومة الفرنسية خلف الإجراءات والتقديمات التي أعلن عنها ماكرون في 10 كانون الأول/ دسمبر الماضي، وتعتبر أن الحوار الوطني الذي بدأ توا ويستمر لشهرين، كافياً للإطلاع على موقف الفرنسيين من مجموعة عناوين وضعها الرئيس الفرنسي في رسالته الإفتتاحية لهذا الحوار، وهي:
- الإنتقال البيئي
- الضرائب والإنفاق العام
- تنظيم الدولة والخدمات العامة
- الديمقراطية والمواطنة
ويصر ماكرون على عدم تقديم تنازلات أمام المحتجين خصوصاً في مطلب فرض الضريبة على الثروات ورؤوس الأموال، وقد كرر في رسالته حول الحوار الوطني التي أعلنت في اليوم التالي لتحرك الفصل التاسع أن قرار إلغاء الضرائب على رؤوس الأموال والمؤسسات المالية والشركات لا عودة عنه "لأن رفع الضرائب على هذه الشريحة سيلحق الضرر بالإقتصاد الفرنسي، وبالتالي سيحرم إقتصادنا من الموارد التي يمكن أن تستثمر في الأعمال التجارية بشكل مفيد، وبالتالي خلق فرص العمل والنمو، وتحرم العمال من ثمار جهودهم".
ويرى حزب ماكرون "الجمهورية إلى الأمام" أن تقديمات ماكرون في 10 كانون الأول/ دسمبر الماضي كانت كافية على مستوى المطالب الإجتماعية – المالية للمحتجين، وأن الحوار الوطني المطروح يحل محل مطلب الإنقال إلى الديمقراطية المباشرة والاستفتاءات، لكن المحتجين يرفضون أي حوار مع الحكومة ويضعون الرئيس أمام تحدي استمرار الاحتجاجات حتى تحقيق المطالب أو الإستقالة.