الأمن المصري في ضوء الربيع السوداني
من جديد، اندلعت تظاهرات شعبية ولكن بصورة أعنف، في دولة السودان بسبب ارتفاع أسعار الخبز وباقي الأسعار، بما يمكن تسميته "ربيع سوداني" جاء متأخّراً عن باقي الربيع العربي، والغريب أن بداية التظاهرات الاقتصادية السياسية تزامنت مع عودة الصادق المهدي زعيم "حزب الأمّة القومي" ورئيس تجمّع "نداء السودان" يوم 19 كانون الأول/ ديسمبر 2018، من العاصمة البريطانية "لندن"، بعد عشرة شهور من المنفى الاختياري، ولا أحد يستطيع التنبؤ بما ستشهده الساحة السودانية من تغييرات، فالقوات المسلّحة السودانية أعلنت انحيازها للرئاسة، والمعارضون يريدون تنحّي الرئيس "عمر البشير"، أو إسقاط النظام كله.
تقف مصر رسمياً على الحياد، لأن أمر السودانيين الداخلي يخصّهم من دون غيرهم، ولكن مصر في المقابل تسعى للتعامل الواقعي مع أيّ تغيير قد يحدث في دولة السودان، فالعلاقات بين مصر والسودان توصَف، بأنها أزليّة مُتشعّبة في كل الاتجاهات والمجالات، ويزكّي هذه العلاقات ويدعمها، أن البلدين يجري فيهما شريان واحد هو نهر النيل، كما أن هناك صلة نَسب ومُصاهرة ودم بين البلدين، والسواد الأعظم من أهالي محافظة أسوان ترجع جذورهم إلى السودان، وأهل النوبة منتشرون في البلدين، مع العِلم أن رئيسين من رؤساء مصر، وهما "محمّد نجيب" و"أنور السادات" نصف كل منهما مصري من جهة الأب، والنصف الآخر سوداني من جهة الأمّ، أي أن العلاقات بين الدولتين لها وجود راسخ على المستويين الجغرافي والتاريخي، ورغم أن السودان تاريخياً يُعتبر امتداداً جغرافياً لمصر، إلا أنه ارتبط رسمياً بمصر منذ أن فتحت جيوش "محمّد علي" السودان عام 1820، ومنذ ذاك التاريخ أصبح السودان جزءاً من مصر وصار البلدان دولة واحدة، وكلاهما تحت نير الاحتلال البريطاني، استقّلت مصر استقلالاً كاملاً عام 1952، واستقلّ السودان عام 1958، وانحاز السودانيون لعروبتهم وإسلامهم، فقد استضاف السودان بعد العدوان الصهيوني على مصر وسوريا والأردن في 5 حزيران|يونيو 1967 أشهر القمم العربية في العاصمة "الخرطوم" في شهر آب|أغسطس عام 1967، والتي اشتهرت بقمّة اللاءات الثلاث "لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض" مع الكيان الصهيوني، كما نقلت مصر الكلية الحربية إلي منطقة "جبل الأولياء" قريباً من العاصمة الخرطوم، خلال حرب الاستنزاف 1968 – 1970، بين مصر وإسرائيل، ولقد شارك السودانيون في كل الحروب العربية ضد الكيان الإسرائيلي، ويشهد التاريخ على أن مصر لم تتهدّد من الجنوب أو الغرب، دائماً كانت تتهدّد من الشرق من جهة فلسطين وعبر شبه جزيرة سيناء، حيث هجمات الصليبيين والتتار، ومن الشمال في البحر المتوسّط، من الرومان والإفرنج الفرنسيين.
ولكن ومنذ اندلاع ما يُسمّى بالربيع العربي عام 2011، بدأت مصر تتهدّد من الجنوب والغرب، فضلاً عن الشرق في "سيناء"، من خلال هجمات الإرهابيين المموّلين من المخابرات العالمية، الذين كانوا يتسلّلون عبر الدروب الغربية الليبية، والجنوبية السودانية، وتنفيذ عمليات إرهابية داخل العمق المصري، كما يتسلّل الأفارقة من الحدود السودانية للتوغّل في الصحراء وصولاً للبحر المتوسّط للهجرة غير الشرعية من مصر وليبيا وتونس إلى أوروبا الجنوبية، كما استضاف السودان القيادات الإخوانية الهاربة من مصر بعد سقوط التنظيم الإخواني يوم 3تموز|يوليو 2013، فاستضافت مصر بالتالي بعض فصائل المعارضة السودانية، وبدأت العلاقات المصرية السودانية تشهد تذبذبات صعوداً وهبوطاً.
اتّهمت السودان مصر أنها تسلّح الانفصاليين في منطقة "كردفان" في الغرب السوداني، وأنها تحتل منطقة "حلايب وشلاتين"، واتّهمت مصر السودان بأنه يأوي جماعات الإرهاب، وأنه يسهّل عملية الدخول إلى الأراضي المصرية، ودخلت الدولتان في حرب تهديد كلامية إعلامية، ثم سياسية، وصلت إلى حد تأجير أو ترك السودان إدارة جزيرة "سواكن" بالبحر الأحمر، للدولة التركية، وقامت مصر بإنشاء قاعدة عسكرية مصرية في دولة "إريتريا"، فوصلت العلاقات إلى ذروة تدهورها، وكذلك حدثت خلافات على المستوى العربي، مصر رفضت ضمنياً موقف السودان الداعِم للإرهاب في سوريا، لأن موقف مصر مع ضرورة الحفاظ على الجيش الوطني السوري، كما رفضت مصر موقف السودان من القضية الليبية، وغيرها من الأسباب التي أسهمت في توتّر العلاقات بين البلدين.
ولكن ونظراً لأسبابٍ مختلفة عادت العلاقات لمسيرتها الطبيعية الآمنة، منها أهمية "سدّ النهضة" الأثيوبي، وحرص مصر على وقوف السودان بجانبها كواجب عربي إسلامي إقليمي أثناء المفاوضات، وضرورة طرد أفراد جماعة "الإخوان المسلمين" من الأراضي السودانية، وهو ما حدث بالفعل، فقد رحل أفراد الجماعة من السودان، وردّت مصر برفض لجوء "الصادق المهدي" إليها، فرحل إلى "لندن"، كما منعت مصر المعارضة السودانية من عقد مؤتمرات لها في القاهرة، وربما أيضاً جاءت زيارة الرئيس "عمر البشير" إلى دمشق يوم 17 كانون الأول|ديسمبر 2018ولقاؤه بالرئيس "بشّار الأسد"، من ضمن المواقف التي قرّبت وجهات النظر المصرية السودانية على المستوى العربي، فقد تبعت زيارة "البشير" إلى سوريا، زيارة قام بها رئيس مكتب الأمن الوطني السوري اللواء "علي المملوك" للقاهرة، ولقائه برئيس جهاز المخابرات المصرية، بما يمثّل بداية لعودة العرب إلى سوريا.
لقد كان من الضروري تعاون الدولتين في المفاوضات مع الجانب الأثيوبي بخصوص السدّ، وتعاونتا بالفعل، ثم انطفأت ولو مؤقتاً الخلافات حول منطقة "حلايب وشلاتين"، التي تقع على الحدود بين الدولتين، وتمّ الاتفاق على مدّ السكك الحديدية بين مصر والسودان، وهو يعني ربط شمال أفريقيا بجنوبها، ومدّ خطوط النقل النهري من مدينة "أسوان" جنوب مصر إلى "وادي حلفا" في السودان، بالإضافة إلى إلغاء تأشيرات الدخول للمواطنين في الدولتين، كما يعيش حوالى ثلاثة ملايين شقيق سوداني في مصر، بالإضافة إلى أن الرئيس "عمر البشير" يحتاج مصر في ظلّ أزماته الاقتصادية الكثيرة والمتعدّدة، كما يحتاج مساعدتها له في حربه ضدّ المتمرّدين في الغرب السوداني، وكلها وغيرها ساهمت في دفء العلاقات بين البلدين.
لكل ما سبق تراقب مصر أحداث ما يجري من تظاهرات في السودان، للتعامل الواقعي بعدها، لأن استقرار السودان هو استقرار لمصر، والعكس صحيح أيضاً، وليس في مصلحة مصر حالياً تغيير نظام الحكم السوداني بعد أن تحسّنت العلاقات بصورة لافتة، فقد تدفع التشديدات الأمنية المصرية على الحدود المصرية الليبية الغربية، فتقوم شبكات التهريب والإرهاب إلى العودة مرة أخرى عن طريق السودان، وقد تأتي قيادة سودانية جديدة تُعيد النظر في ملف العلاقات السودانية المصرية من جديد، وهو يعني العودة في كل الملفات إلى نقطة الصفر، وهذا ما لا نرجوه، كما ندعو أن ينجّي الله السودان من مصير "الربيع العربي"، لأنه خريف مازالت تعاني منه الدول العربية...