جيمس جيفري رجل واشنطن لاستقطاب تركيا
تطوّرات دراماتيكية هامّة تشهدها العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا في جميع الملفات العالِقة بين البلدين، وعلى رأسها إن لم يكن أهمّها الملف السوري. لغة الشدّ والجَذْب تتصاعد على خلفيّة التسخين في شرق الفرات مُهدّدةً بإمكان انفلات الأمور وخروجها عن السيطرة، وهو ما يتناقض مع الاتفاق الضمني بين سياسة أنقرة وواشنطن حول إدلب وارتياح كل طرف لموقف الطرف الآخر، وكذلك مع عودة تفعيل خريطة الطريق بينهما بخصوص مدينة منبج.
وقد تتوّج ذلك مؤخّراً بقرارٍ أميركي مُفاجئ قضى بتصنيف بعض قيادات حزب العمال الكردستاني على قائمة الإرهاب، فيما كان الرد الأميركي على التهديدات التركية باقتحام شرق الفرات مَرِناً ويحاول نزْع فتيل الانفجار عبر تسيير دوريات أميركية على خطوط التماس بين الأتراك والكرد. مجمل هذه التطوّرات لا يترك مجالاً للشك في أن هناك مَن يسعى بكل ما أوتيَ من قوّة لإخراج العلاقة بين الدولتين من "الحُفرة العميقة" التي هوت إليها نتيجة سلسلة طويلة من التصرّفات والمواقف المُتبادَلة.
وما من أحدٍ يجد في نفسه الأهلية السياسية والدبلوماسية لتولّي القيام بمثل هذه المهمّة شبه المُستحيلة غير جيمس جيفري المبعوث الأميركي إلى سوريا ، وصاحب العلاقات الواسعة مع المسؤولين الأتراك ومن ضمنهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بحُكم عمله السابق كسفيرٍ لبلاده في أنقرة بين عامي 2008 و2010. ولكن هل سيستطيع جيفري تحقيق المُعجزة وقلب المسار المُتدهور لعلاقة بلاده مع تركيا كما استطاع فرض نفسه على إدراة الرئيس ترامب رغم أنه كان أحد أهم الشخصيات الخمسين التي وقّعت في وقتٍ سابقٍ على بيانٍ ناقِدٍ للرئيس ترامب ورافِضٍ لتوجّهاته؟.
أبدى "الدبلوماسي المُخضرَم" وهي أعلى رتبة في وزارة الخارجية الأميركية، القدرة على القيام بنشاطٍ محمومٍ خلال فترة قصيرة من تعيينه في منصبه الجديد كمبعوثٍ أميركي إلى سوريا في شهر آب الماضي. حيث قام بجولتين إلى دول المنطقة شملت كلاً من الأردن وتركيا ولبنان وإسرائيل ودولاً أخرى، كما زار مدينة منبج في الشمال السوري والتقى مع فعّالياتها المدنية والسياسية والعسكرية، وكان له دور كبير في صوغ الاستراتيجية الأميركية الجديدة حول سوريا، ويُعتبَر من كبار المُتحمّسين لمواجهة النفوذ الإيراني في سوريا، كما يعتقد أنه هو الذي وقف وراء الموقف المُتشدّد لواشنطن إزاء عملية الجيش السوري لتحرير إدلب.
وتتقاطع التطوّرات الجارية بين الولايات المتحدة وتركيا حول بعض خلافاتهما في سوريا في كثيرٍ من النقاط مع التوجّهات المعروفة لجيمس جيفري، مثل تفعيل اتفاق منبج الذي طالما نادى به جيفري وكتبه في أحد مقالاته عقب انتخاب أردوغان رئيساً لتركيا العام الماضي. كما أن تصنيف قادة حزب العمال الكردستاني على قائمة الإرهاب لا يخرج عن هذا الإطار، إذ من المعروف عن جيفري أنه يتبنّى مواقف مُتوازِنة في موضوع الخلاف التركي الكردي ويرفض مُحاباة القوات الكردية على قاعدة "المرونة المائِعة" كما فعلت كل من إدارتي أوباما وترامب.
غير أن الأهم هو أن جيفري الذي يُعتَبر حالياً المسؤول عن تنفيذ استراتيجية واشنطن في سوريا، يرى أن على الولايات المتحدة أن توائم مصالحها طويلة الأمد في تركيا مع شراكتها مع "قوات سوريا الديمقراطية" ، وأن تعمل على تثليث تحالفها الحيوي مع أنقرة وتعهّدها العَلني بالحفاظ على التحالف مع القوات الكردية وبالأخصّ خلال "العامين المقبلين".
وفي مقالة كتبها لنشرة فورين بوليسي في شهر كانون الأول من هذا العام، وضع جيفري خارطة طريق، مُخادِعة لكنها أساسية كما وصفها بنفسه، للتوفيق بين المصالح الأميركية من جهةٍ وبين الحلفاء الأتراك والكرد السوريين على حدٍ سواء من جهةٍ ثانية. وليس مصادفة أن يكون البند الأول من هذه الخارطة هو نأي حزب الاتحاد الديمقراطي بنفسه عن حزب العمال الكردستاني. ألا يستدعي ذلك التساؤل عما إذا كانت واشنطن عبر تصنيف قادة الأخير على قائمة الإرهاب تحاول الفصل بين الحزبين تمهيداً لتحسين علاقة كرد سوريا مع تركيا؟ قد يبدو الهدف طوباوياً حسب توصيف جيفري نفسه، ولكنه يُسارِع إلى القول أن كرد العراق وتركيا كانوا أعداءً قبل عقد من الزمن وأصبحوا اليوم أصدقاء.
ويبدو أن المشكلة التي تشكّل هاجِساً رئيسياً في تفكير جيفري هو إدراكه أنه لا يمكن نجاح سياسة بلاده ضدّ إيران ما لم تكن تركيا طرفاً في تنفيذ هذه السياسة. ومن هنا لم يكن تصريحه في أعقاب زيارته الأخيرة إلى أنقرة، حول تقارُب أميركي تركي في عددٍ من الملفات السورية أهمّها الاتفاق على ضرورة انسحاب القوات الإيرانية، إلا ترجمة لهذا الهاجِس الذي يسكنه.
وبما أن تصريح جيفري اللافت حقيقةً، لم يُثِر أيّ نفي أو تأكيد رسمي تركي، فقد بقي مُعلّقاً في الهواء يحتمل التأويلات المُختلفة، ويدفع للتساؤلات عما جرى في كواليس لقاءاته مع المسؤولين الأتراك.
ومن غير المُستبعَد ألا يكون لدى الساسة الأتراك أيّة مشكلة في الاستماع إلى وجهة نظر جيفري ودراسة خططه حول مستقبل سوريا ودور تركيا فيها والنظر في مصالح أنقرة في هذه الخطط من عدمها.
لكن هذا لا يعني بأية حال من الأحوال أن طريق عودة التنسيق الأميركي- التركي في سوريا بات سالكاً، لأنه بغضّ النظر عن إرادة وموقف النظام التركي ومدى رغبته في وَصْل ما انقطع مع واشنطن، فإن الأزمة السورية باتت محكومة بمُعادلة مُعقّدة من المصالح وموازين القوى ليس من السهل كسرها أو اختراقها. وتُدرك أنقرة أن أيّ تقارُب مع واشنطن لكَسْبِ نقاطٍ في شرق الفرات سوف يترتّب عليه ليس خسارتها للنقاط التي حازتها في إدلب بموجب الاتفاق مع روسيا وحسب، بل لمُجمل موقعها الجديد في المنظومة الاقليمية الذي حاولت صوغه بعد الانقلاب الفاشِل.