صراع الحكومة والنقابة... أزمة تلِد أزمة
يشعر التونسيون اليوم أن التعليم العمومي مُستهدَف. فهناك إهمال للمدارس والجامعات لا تخطئه العين. وبعضها لا يتوافر حتى على الأقلام والأوراق والآلات الناسخة.. بينما تتوافر المدارس والجامعات الخاصة في المقابل على أفضل طواقم التدريس وأدوات العمل.
عندما قرّرت نقابة التعليم الثانوي تعليق الدروس والاستمرار في حجب الأعداد إلى أن توافق الحكومة على التفاوض معها، قال كثيرون إنها أدخلت البلد في أزمة كان بالإمكان تفاديها، لأنها فرضت على الاتحاد العام التونسي للشغل الذي تتبع له معركة خاسِرة ليس ضدّ الحكومة فحسب وإنما أيضاً ضدّ الرأي العام والأُسَر المعنية.
بعد أكثر من أسبوع من إضراب أساتذة التعليم الثانوي قرّر اتحاد الشغل استئناف الدروس. لا شك في وجود مطالب محقّة لدى هذه الفئة تتعلّق أساساً برفع الرواتب وإعادة النظر في المنظومة التربوية..
وإنهاء الاتحاد الشغل الإضراب، تحت ضغط جزء من الرأي العام المدفوع من أحزاب السلطة بعد أن تعالت الأصوات الداعية إلى إنهائه، كان متوقّعاً. اختار الاتحاد الاستجابة لتلك المطالب انسجاماً مع المصلحة العليا للتلاميذ الذين بات أولياؤهم يخشون سنة دراسية بيضاء. غير أن مرونة الاتحاد لن تعني التنازل عن مطالبه، بل ستكون بداية لمعركة طويلة.
لا يعاني أساتذة التعليم وحدهم من سوء الحال المعيشية، بل إنهم في وضع أفضل بكثير مقارنة مع طبقات اجتماعية أخرى مثل نظرائهم المهندسين مثلاً أو سائر موظّفي الدولة، ولا حديث عن بقيّة القطاعات الأقل حظاً مثل العمال والجنود والمعلّمين العرضيّين والأساتذة المتعاونين وكثير من الصحافيين والإعلاميين.. فضلاً عن المُعطّلين عن العمل.
يُنتِج سوء المعاملة عادة تهاوناً ومللاً وشعوراً بالظلم والاستغلال تؤثّر كلها بشكل آليّ على المردود. ولا أحد يمكنه اليوم أن ينفي التقصير لدى كثير من الأساتذة الذين أصبح بعضهم لا يقدّم ما هو مطلوب منه، تماماً مثل العاملين في أيّ قطاع آخر. غير أن الاهتمام بمطالبهم هو ما يمكنه إعادة لذّة العمل إليهم.
من الواضح أن البلاد تمر بأوضاع اقتصادية مُزرية نتيجة السنوات السبع العِجاف السابقة، غير أن تلك الأوضاع تبقى مسؤولية الحكومة قبل كل شيء. فقد كان دائماً أمامها خيارات حقيقية لإنقاذ اقتصاد البلاد والتحرّر من قبضة الإرهاب والمديونية والفساد المنتشر بين رجال الأعمال وفي أجهزة الدولة، والتهرّب الجبائي وتبديد المال العام وأقساط صندوق النقد الدولي الذي يربط أقساطه بعدم الزيادة في كتلة الأجور لتصبح البلاد عملياً تحت سلطته.
تضطر الدولة بسبب ذلك كله إلى الاقتراض من السوق المالية والبنوك الدولية لدفع الرواتب. وهو وضع لا يسمح للدولة بتقديم أية زيادات في الأجور. وحتى لو استجابت الحكومة وقدّمت تلك الزيادات في الأجور، فإن ارتفاع كلفة المعيشة والتضخّم المستمر سيمتّص تلك الزيادات لتصبح بلا جدوى.
ليست مشكلة الاقتصاد التونسي اليوم مشكلة جزئية يمكن معالجتها وإصلاحها في كل مرة بل هي مشكلة منظومة وصلت إلى نهايتها. أمكن إسقاط النظام السياسي الاستبدادي عشية 14 كانون الثاني/ يناير 2011، غير أن المنظومة السياسية التي جاءت بعد ذلك كانت عرجاء بعد أن استلمت السلطة نُخب تربَّت داخل النظام المعرفي والاجتماعي والاقتصادي الذي كان معتمداً. وهو ما عنى استمرار الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية على ما هي عليه. بل إنها زادت سوءاً بعد تجميد البنوك الأوروبية حسابات الدولة التونسية بمزاعم شتّى وتراجع الإنتاج في مختلف القطاعات.
أما الجانب الثاني الذي يمثّل مطلباً نقابياً فهو إصلاح المنظومة التربوية ومناهج التعليم. تم ربط هذه المنظومة بالخيار النيوليبرالي الذي أنتهجه الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي عندما أصدر في حزيران/ يونيو 1992 قانوناً يسمح للمستثمرين بإنشاء مؤسسات تربوية وتعليمية خاصة.
كان عدد مُنتسبي التعليم الخاص قبل ربع قرن لا يتجاوز العشرة آلاف على أقصى تقدير. لكنه اليوم يتجاوز 170 ألفاً من جملة مليونَيّ تونسي يتابعون الدراسة، أي بنسبة تقارب العُشر. وكل المؤشّرات تؤكّد أنّ الظاهرة ما زالت تتعاظم.
كان التعليم العمومي مصوناً قبل وصول زين العابدين بن علي إلى السلطة. وبعد وصوله ساءت منظومة التعليم الرسمي نتيجة خيارات نيو ليبرالية. ومع انتشار التعليم الخاص من الحضانة إلى الجامعة تم ضرب مبدأ المساواة، وبدأ إنتاج النخب على أساس طبقي، وتراجعت مكانة المدرّس، إلى أن انتهى الأمر إلى تردّي التعليم عبر تسليع المعرفة والشهادات..
كانت نسب التمدرس ومحو الأمية، إلى وقت قريب، جيّدة. وكان التعليم يحتلّ مراتب عالمية متقدّمة في جودته. فالتعليم العمومي في تونس مجاني وموحّد وتمتد مؤسّساته على كامل تراب البلاد. لكن بعد انتشار التعليم الخاص منذ بداية التسعينات ساءت أوضاع التعليم العمومي وأصبحت جودة التعليم حكراً على الأثرياء، وجزء من الطبقة الوسطى.
يشعر التونسيون اليوم أن التعليم العمومي مُستهدَف. فهناك إهمال للمدارس والجامعات لا تخطئه العين. وبعضها لا يتوافر حتى على الأقلام والأوراق والآلات الناسخة.. بينما تتوافر المدارس والجامعات الخاصة في المقابل على أفضل طواقم التدريس وأدوات العمل.
لا تطالب نقابة التعليم بالتخلّي عن التعليم الخاص ولكنها تطالب بالاهتمام بالتعليم العمومي الذي يمثل الملجأ الوحيد للطبقة المتوسّطة والفقيرة لتعليم أولادهم. وهي تشعر أن الحكومة تتعمّد إهمال المدارس والجامعات العمومية وإفساد التعليم خدمة للقطاع الخاص لأسباب لا تعلن عنها الوزارة، ولكن النقابة تقول إنها إملاءات صندوق النقد الدولي كما جاء على لسان الكاتب العام للجامعة العامة للتعليم الثانوي لسعد اليعقوبي ومساعده فخري السميطي.
تخشى نقابة التعليم تغوّل التعليم الخاص وتكريسه طريقاً سريعة نحو "المستقبل الباهِر" وإعادة إنتاج الفوارِق الطبقية، بل وتعميقها عندما تصبح الثروة والوظائف المهمة وإنتاج النخب مقتصرة على طبقة واحدة.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تصطدم فيها إحدى نقابات اتحاد الشغل بالحكومة، ولا يبدو أنها ستكون الأخيرة مادامت المنظومة الاقتصادية والرؤية السياسية لم تتغيّر، فمُعاناة تونس لا تتحدّد في مشاكل تفصيلية هنا أو هناك بل تتحدّد بالأساس في المنظومة الحاكِمة.