إصلاحات بنكهة وصايا البنك الدولي!
تضع "الإصلاحات الكبرى" رئيس الحكومة أمام خيارين مُتناقضين أحلاهما قد يكلّفه قصر القصبة. فهو من جهة مُطالَب بإرضاء البنوك الدولية وتطبيق "توصياتها"، ومن جهة أخرى يحتاج إلى تلبية مطالب الشارع الذي بدأ فعلياً في التحرك ضد تلك الخطوات.
رفعت الحكومة التونسية شعار "الإصلاحات الكبرى" وجعلت منه عنواناً لآخر ندواتها، في اعتراف ضمني بوجودِ خللٍ كبيرٍ في الإدارة الاقتصادية والاجتماعية لمشاكل البلد الذي يواجه صعوبات اقتصادية متنوّعة.
على مدى السبعة أعوام الماضية مرت تونس بثلاث مراحل مُتداخلة أحياناً. المرحلة الأولى كانت مرحلة الفوضى واللا استقرار عندما كثرت الإضرابات والاعتصامات والعمليات الإرهابية، التي شلّت حركة الإنتاج ودفعت الكثير من المصانع والشركات إلى الإغلاق لترتفع نسبة البطالة وتتراجع قيمة الدينار وتنكمش السياحة.. الأمر الذي فاقم عجز الميزانية والميزان التجاري. والمرحلة الثانية هي اندفاع الحكومات المتعاقبة لطلب القروض من البنوك الدولية لتغطية العجز في الميزانيات. ولا شك أن تلك البنوك لا تقدّم قروضها إلا بشكلٍ مشروط.
أما المرحلة الثالثة فهي قرار الحكومة تقليص الدعم للمحروقات ورفع الأسعار بشكلٍ دوري ورفع سن التقاعد وخفض سعر الدينار وبيع بعض المؤسسات الكبرى بعد أن ساءت خدماتها. فبحسب بيان الصندوق الدولي يتعيّن خفض دعم الطاقة من خلال إقرار زيادات في أسعار الطاقة المحلية بشكلٍ دوري لضمان انخفاض عجز الميزانية. وهناك ضرورة لتجميد الأجور ورفع سن التقاعد وإجراء إصلاحات بارامترية إضافية في معاشات التقاعد لاحتواء العجز في نظام الضمان الاجتماعي.
هذه المرحلة لم تبدأ اليوم، بل انطلقت منذ سنتين بإجراءات أخرى مثل خفض عدد الموظفين من خلال وقف الانتدابات في الوظيفة العمومية، ثم خفض الأجور العمومية من خلال الخفض في قيمة الدينار تجنباً لأية ردّة فعل اجتماعية إذا تم خفض تلك الأجور بشكلٍ مباشر.
يُسمّي رئيس الحكومة هذه المرحلة بـ"الإصلاحات الكبرى" التي أعلنت الجبهة الشعبية واتحاد الشغل عن مقاطعة ندواتها وجلساتها، وقالا إنهما لا يريدان أن يكونا شاهدي زور على "إملاءات صندوق النقد الدولي" الذي ترأسه كريستين لاغارد.
"حزمة الإصلاحات" التي يطالب بها المقرضون لخفض العجز، ليست إلا خطوة أخرى تؤدّي بالضرورة إلى محاصرة الناس في معيشتهم اليومية وقبولاً آخر بشروط وتوصيات لا تخدم مصالح البلاد ولا حتى الحكومة نفسها.
تشير البيانات الأخيرة لصندوق النقد الدولي حول تونس بعد زيارة قامت بعثة من الصندوق يقودها بيورن روتر في النصف الأول من أبريل - نيسان الجاري إلى تحسّن النمو الاقتصادي، تدفعه جودة الموسم الزراعي، وزيادة الاستثمار، والتعافي المُبكر الذي تشهده الصادرات. غير أن نسبة المخاطر التي يتعرّض لها الاقتصاد الكلي ارتفعت. فالتضخم ارتفع بسرعة مسجّلاً 7.6% في شهر آذار / مارس، وتغطية الاحتياطيات الدولية لا تزال أقل من 90 يوماً من الواردات، والدَّيْن العام والدين الخارجي بلغا 71% و 80% من إجمالي الناتج المحلي، على التوالي. وهو ما أثر على عمليات سداد الديون، حيث قدرّت نفقات خدمة الدين خلال الفترة المتراوحة بين 2008 و2018 بنسبة 19 % من ميزانية الدولة، وهو ما يشكل أكبر باب للنفقات العامة في تونس.
ورغم الأرقامِ المُعلَنة، تصرُّ حكومة الشاهد على اعتبار الالتجاء إلى صندوق النقد الدولي ضرورة لا مفرّ منها، وتقول إنها هي التي ذهبت إليه ولم يأت إليها. لا فرق بين أن تذهب الحكومة إليه أو أن يأتي هو إليها مادامت الحكومة نفسها قد أصبحت مرتهنة لتوصياته المُتكرّرة ولا تستطيع اتخاذ القرارات الضرورية والموجعة في الداخل لتصحيح الخلل.
يُهمل الاقتصاديون الرسميون هذه الانتقادات ويغرقون في تفاصيل لا تزيد عن كونها تفسيراً نظرياً لخطوات تنوي الحكومة اتخاذها. من الواضح أن تلك النُخبة، التي تحضر بكثافة في وسائل الإعلام المختلفة، واقعة تحت رحمة الخطوط الحمر المفروضة. ولا شك أن ذلك يُرضي صندوق النقد الدولي الذي لا يريد أن يخسر حليفاً لو تمّ التوجّه إلى حلّ مشاكل البلاد الاقتصادية بشكلٍ ذاتي من خلال تأميم الثروات الطبيعية ومحاربة الفساد والتهريب وإطلاق المشاريع الكبرى.
يعترف المختصّون أن الوضع الاقتصادي بات حرِجاً، وأن السيناريو اليوناني لن يكون بعيداً إذا لم تتدارك الحكومة أخطاءها. فاحتياطي العملة الأجنبية لم يعد يغطّي واردات البلاد لأكثر من 89 يوماً، بينما يستمر تدهور الدينار أمام العملات الأجنبية.
تضع "الإصلاحات الكبرى" رئيس الحكومة أمام خيارين مُتناقضين أحلاهما قد يكلّفه قصر القصبة. فهو من جهة مُطالَب بإرضاء البنوك الدولية وتطبيق "توصياتها"، ومن جهة أخرى يحتاج إلى تلبية مطالب الشارع الذي بدأ فعلياً في التحرك ضد تلك الخطوات.