الاختبار الثالث.. انتخابات محليّة بعد طول انتظار
يصعب توقّع نتائج دقيقة للانتخابات القادمة رغم الاستطلاعات التي ترجّح فوز النداء والنهضة بأغلب المجالس. من الممكن أن يحقّق حزب أو ائتلاف هنا أو هناك اختراقاً ما والحصول على عدد غير متوقّع من المجالس البلدية. لكن الشيء الثابت الوحيد هو حجم السخط الشعبي على كل الأحزاب وتأثيره المؤكّد على نسبة المشاركة المتوقّعة. فهناك حال يأس من إمكانية تغيير الواقع عبر الانتخابات، والأمل الوحيد المُتبقي هو حدوث اللا مُتوقّع.
تختلف الانتخابات البلدية عن أية انتخابات أخرى بسبب التصاقها بمصالح الناس، وتأثيرها على حياتهم اليومية. فهي تمثّل سلطة لامركزية على تماسٍ مباشر مع المواطن، يراها وتراه.
تأخّرت الانتخابات البلدية سبع سنوات كاملة في تونس. وتم تأجيلها أكثر من مرة، لكن هذه المرة تقرَّر إجراؤها في 6 أيار/ مايو القادم. يمكن للانتخابات البلدية أن تؤسّس لديمقراطية تشاركية ولا مركزية تكون أكثر فاعلية وأكثر قدرة على خدمة مصالح الناس. لكن هؤلاء الناس، الذين لم يقبضوا سوى الريح من وعود الانتخابات الرئاسية والتشريعية، لا يبدو أنهم مقتنعون بتكرار التجربة والمشاركة في الانتخابات البلدية حسب ما أظهرته استطلاعات الرأي التي قالت إن قرابة الـ50 % من المواطنين لن يشاركوا و25% آخرون متردّدون. ولا ينخرط أغلب الناس في العمل الحزبي وهم لا يبحثون إلا عن حل مشاكلهم الاجتماعية وهمومهم اليومية. ملَّ الناس السياسة والسياسيين وباتوا يفكّرون في حل مشاكلهم بعيداً عن رجال السلطة.
لكن الطبقة السياسية لا تهمّها نِسَب المشاركة، بل تريد تحقيق رهاناتها الخاصة التي تختلف باختلاف الأحزاب. وهي لذلك تبحث عن الوسائل التي يمكنها أن تجمع لها أكبر عدد ممكن من الأصوات.
يأمل الحزبان الكبيران حركة النهضة ونداء تونس البقاء في صدارة المشهد السياسي. ولا تريد النهضة أن يتكّرر معها ما حدث لإخوان مصر أو ما حدث لأردوغان في تركيا عندما واجه محاولة انقلاب في 2016. فصوَر المطاردة والسجون والتعذيب لا تزال تلاحق مخيّلة النهضويين الذين تعرّضوا للإقصاء العنيف. وبسبب ذلك تركِّز النهضة على الابتعاد عن الواجهة. هي تشعر أنها ليست مقبولة لدى أكثر الناس رغم أنها حزب له شعبيته. فكل الآخرين، الذين يمثّلون مجتمعين الأغلبية، لا يفضّلونها بعد تجربة حُكم قصيرة فاشلة. تقبل النهضة بعدد محدود من الوزراء رغم أنها تمتلك الكتلة الأكبر في البرلمان ويحق لها ترشيح رئيس للحكومة. لكنها، في المقابل، لم تتردّد في ضخّ الآلاف من منتسبيها في الإدارات المختلفة.
تبقى النهضة معنية بالانتخابات المحلية التي تسمح بنطاق واسع من حرية القرار والسلطة اللامركزية. والحصول على عدد كبير من المجالس البلدية سيُرضي أنصارها، وسيجمع حولها مجدّداً الكثير من "الوصوليين"، وسيمكِّن كوادرها من فرصة مهمّة للتدرّب على الإدارة السياسية وكيفية التصرّف في المنصب.
أما نداء تونس وريث الحزب الحاكم القديم فهو الذي يحكم فعلياً. وهو يسيطر على الرئاسات الثلاث؛ الجمهورية والحكومة والمجلس. يريد حزب النداء الآن حسم الانتخابات البلدية لصالحه خاصة أن استطلاعات الرأي تؤيّد ذلك وتضعه في المقدّمة قبل حركة النهضة.
يمتلك هذا الحزب "ماكينة انتخابية" ضخمة وخبيرة. فقد كان يحكم طوال العقود الماضية ولم يغيّر سوى علامته ليبقى مقبولاً بين الناس. ورغم تصدّع الحزب بعد انتخابات 2014 وخروج وجوه كثيرة منه، إلا أنه بقي الحزب الأمّ الذي يجمع حوله الكثير من الأنصار "الدساترة".
والفوز بهذه الانتخابات يعني قوّة ماليّة إضافيّة للحزب بسبب الاستقلالية المالية الكبيرة للجماعات المحلية وقدرتها على عقد الصفقات وإبرام العقود مع المستثمرين والمقاولين. وإذا تمكّن نداء تونس من الفوز مجدّداً، فإن ذلك سيمكنّه من توسيع قاعدته الجماهيرية وترميم تشقّقاته وربما عودة "الأبناء الضّالين" والإعداد للانتخابات التشريعية القادمة في 2019.
لكن هذان الحزبان ليسا وحدهما في المشهد، بل هناك أحزاب أخرى يمكن تقسيمها إلى نوعين. الأول هو أحزاب الوسط والثاني هو أحزاب اليسار. نجد في النوع الأول عشرات الأحزاب منها القديم ومنها المُنشق عن حزب النداء أو حركة النهضة أو المؤتمر من أجل الجمهورية ومنها ما هو حديث التكوين. وهذه الأحزاب بعضها يشارك الآن في حكومة الوحدة الوطنية مثل الحزب الوطني الحر أو أنه شارك فيها قبل أن ينسحب مثل مشروع تونس.
تأمل هذه الأحزاب في إحداث المفاجأة وحصد أكثر ما يمكن من المجالس البلدية لكسر استئثار الجبهة الشعبية بدور المعارضة. لا تقبل هذه الأحزاب بهيمنة الحزبين الكبيرين على المشهد وتسعى إلى ترويج نفسها بديلاً جديّاً عنهما بعد أن أثبتا فشلهما بحسب هذه الأحزاب. والفوز ببعض المجالس المحلية يعطي هذه الأحزاب إمكانية للحصول على مناصب حكومية إذا فكّرت في هذا الاتجاه من خلال المفاوضات مع أحزاب الحُكم، لتشكيل تحالفات قويّة في الانتخابات القادمة.
والنوع الثاني هو أحزاب اليسار التي تأتلف في الجبهة الشعبية. تأمل الجبهة في تكرار النجاح الذي حقّقته في انتخابات 2014 عندما حصلت على 15 مقعداً برلمانياً أو تحقيق إنجاز أهم من ذلك.
ساعد الجبهة في الانتخابات السابقة تاريخها النضالي وتصفية النائبين شكري بلعيد ومحمّد البراهمي اللذيْن اغتالتهما جهات غير معلومة حتى الآن. وإذا كانت النهضة قد خسرت الكثير من أرصدتها بسبب الحُكم رغم رصيدها النضالي، فإن الجبهة الشعبية لا تزال تجمّعاً بكراً لم تدنسه السلطة. وليس أمامها سوى إقناع الناخبين ببرامجها والبحث عن الوسائل المناسبة للوصول إلى الناس. تأمل الجبهة في تحقيق ما هو أفضل من الانتخابات السابقة ونسيان خيبة 2011 عندما وصِفَت حينها بـ"جبهة الصفر فاصل".
يصعب توقّع نتائج دقيقة للانتخابات القادمة رغم الاستطلاعات التي ترجّح فوز النداء والنهضة بأغلب المجالس. من الممكن أن يحقّق حزب أو ائتلاف هنا أو هناك اختراقاً ما والحصول على عدد غير متوقّع من المجالس البلدية. لكن الشيء الثابت الوحيد هو حجم السخط الشعبي على كل الأحزاب وتأثيره المؤكّد على نسبة المشاركة المتوقّعة. فهناك حال يأس من إمكانية تغيير الواقع عبر الانتخابات، والأمل الوحيد المُتبقي هو حدوث اللا مُتوقّع.