لبنان إلى العصر النفطي... بقوّة الردع
غاية إسرائيل هي حرمان لبنان من استغلال ثروتين استراتيجيتين: المياه والنفط. والثروتان تشكّلان إذا ما أحسنت الحكومة اللبنانية استغلالهما، مصدر غنى وتصبّان في تعزيز مالية بلد يعاني مديونية هائلة، وتخلقان فُرَص عمل كثيرة للبنانيين، وتوقفان نزيف الهجرة إلى الخارج، وتالياً تُدخلان تغييراً كبيراً على مجمل الوضع الاقتصادي لهذا البلد.
عند عتبة الاستحقاق النفطي في لبنان تحرّكت إسرائيل. قالها وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان بفجاجة إن مباشرة لبنان بطرح العطاءات لاستخراج الغاز في البلوك الرقم 9 تُعتبر بمثابة "استفزاز لإسرائيل"، لأن هذه المنطقة "ملكٌ لنا". هذا الكلام التهديدي مؤدّاه غرض واحد، ألا وهو حمل الشركات التي اتفقت معها الحكومة اللبنانية على التنقيب في المياه الاقليمية للبنان، على عدم المُضيّ في الإجراءات العملية التي من شأنها أن تنقل لبنان إلى العصر النفطي.
التهديدات الإسرائيلية بمنع لبنان من استغلال ثرواته الطبيعية ليست جديدة. فمعروف أن إسرائيل عملت خلال فترة احتلالها للشريط الحدودي في جنوب لبنان، على سرقة مياه الليطاني. وكثيراً ما أطلق القادة الإسرائيليون تهديدات بالحرب في حال أقدم لبنان على استغلال ثروته المائية، لا سيما الأنهر التي تصبّ في فلسطين المحتلة. وفي عام 1965 أغارت الطائرات الإسرائيلية على منابع نهريّ الحاصباني والوزاني، لتمنع تنفيذ مشروع كانت قد أقرّته جامعة الدول العربية في عام 1964 وينصّ على تحويل مجاري الأنهر، التي تصبّ في بحيرة طبريا، وهي الحاصباني والوزاني في لبنان ونهر بانياس في سوريا. وتوالت بعد ذلك التهديدات الإسرائيلية من مغبّة إقدام الحكومات اللبنانية على استغلال الثروة المائية في الجنوب. ولا تزال إسرائيل تقيم مضخّات على نهر الوزاني حتى اليوم من دون أن تقيم أيّ وزن للقانون الدولي.
وغاية إسرائيل هي حرمان لبنان من استغلال ثروتين استراتيجيتين: المياه والنفط. والثروتان تشكّلان إذا ما أحسنت الحكومة اللبنانية استغلالهما، مصدر غنى وتصبّان في تعزيز مالية بلد يعاني مديونية هائلة، وتخلقان فُرَص عمل كثيرة للبنانيين، وتوقفان نزيف الهجرة إلى الخارج، وتالياً تُدخلان تغييراً كبيراً على مجمل الوضع الاقتصادي لهذا البلد.
وإذا كان هذا هو التعاطي الإسرائيلي مع الثروة المائية للبنان، فإن التعاطي مع ثروة لبنان النفطية لا يشكّل استثناءً، لا سيما وأن كميات الغاز المُكتشَفة في الحقول التي تستثمرها إسرائيل قبالة شواطىء فلسطين المحتلة، لا تحتوي على الكمّيات المُفترَضة، ولذلك هناك إصرار للتعويض من طريق سرقة الغاز من قبالة السواحل اللبنانية.
وعلى غرار التهديدات والخطوط الحمر التي رسمتها إسرائيل أمام الحكومات اللبنانية لتنفيذ مشاريع على أنهر الجنوب، فإنها تلجأ اليوم إلى اللغة ذاتها في الملف النفطي. لكن ليس بالضرورة أن تنجح إسرائيل هذه المرة في فرض شروطها والتحكّم بالمُعادلة. فلبنان يقف اليوم موحّداً في مواجهة المحاولات الإسرائيلية لعرقلة البدء بالخطوات الفعلية لاستخراج الغاز.
وفيما تمضي الحكومة اللبنانية في إجراءات توقيع العطاءات لبدء التنقيب مع كونسرتيوم يضمّ توتال الفرنسية وإيني الإيطالية ونوفاتك الروسية، أكّد الرئيس ميشال عون أن "كلام ليبرمان عن البلوك الرقم 9 تهديد للبنان ولحقّه في ممارسة سيادته على مياهه الاقليمية". كما أن رئيس الوزراء سعد الحريري أكّد أن لبنان "سيتابع هذا الكلام الإسرائيلي مع الجهات الدولية المُختصّة للتأكيد على حقّه المشروع في التصرّف بمياهه الاقليمية".
هذا في السياسة. أما المعادلة التي لا بدّ من أن تكون إسرائيل تأخذها في الحسبان فهي تلك المعادلة التي تفرضها المقاومة وإعلان الأمين العام لـ"حزب الله" السيّد حسن نصرالله مراراً، أن المقاومة لن تسكت إذا ما حاولت إسرائيل منع لبنان من استغلال حقوله الغازية في البحر، وأن أية محاولة من جانب إسرائيل في هذا الاتجاه سيكون الردّ عليها بالمثل.
وتُدرك إسرائيل أن تجاوز قوّة الردع لـ"حزب الله" ستكون مُكلِفة وتدفع بالأوضاع نحو نهايات لا يمكن التنبّوء بها. وقد يكون الشعور الإسرائيلي بالعجز عن الإقدام على خطوات عملية لتعطيل عملية التنقيب عن الغاز الطبيعي قبالة السواحل اللبنانية، هو الذي دفع بالمسؤولين الإسرائيليين في الأيام الأخيرة إلى تصعيد التهديدات للبنان وتزايد الكلام حول إنشاء "حزب الله" مصانع للصواريخ في جنوب لبنان وتحذير اللبنانيين من عواقب مثل هذه الخطوة. وبدا لوهلة أن الحرب واقعة حتماً.
هذه التهديدات إذا ما أقدمت إسرائيل على نقلها إلى حيّز الفعل، فإنه ليس من المُبالغة القول إنها تكون تُخاطر بتفجير مواجهة قد تُشعِل حرباً ليس في لبنان فحسب، وإنما تُنذِر بحريق اقليمي. وربما كان الكلام الذي ورد على لسان مسؤولين إسرائيليين عن أن الصواريخ "ستمطر" على إسرائيل في حال نشوب حربٍ ثالثة مع لبنان، كان الهدف منه التذكير بالثمن الباهِظ الذي سيدفعه الإسرائيليون، وتالياً التمهيد لاتخاذ مواقف أقل تهوّراً. ومعادلة توازن الرُعب المفروضة منذ عام 2006، هي الضمانة الأكبر للبنان اليوم، ولجعل إسرائيل تفكّر ألف مرة قبل الإقدام على إشعال فتيل التفجير.
ويبقى أن الخشية الإسرائيلية من أن يتمكّن لبنان من استغلال نفطه، لا تنبع فقط من رغبة إسرائيلية في سرقة ما يمكنها سرقته من ثروة لبنان الطبيعية كما تفعل في مياهه، وإنما جزء كبير من الخوف الإسرائيلي نابع من كون النفط يمكن أن يُحدِث تحوّلاً استراتيجياً في الاقتصاد اللبناني وينقل لبنان إلى دولة تحقّق نمواً اقتصادياً وتالياً يحقّق استقراراً اجتماعياً وسياسياً. وهذا ما لا تريده إسرائيل.