بعد أن خمَدَ الحريق.. ما رأي إعلام الشماتة في تظاهرات إيران؟
صحيح أنه لا يُوجد صحافي أو إعلامي ليس له رأي، ولكن الأصل هو أن تكون الرؤى الإعلامية واقعية في التحليل وواقعية في التغطية، ولكن ماذا نقول، والبغض السياسي ليس له نهاية، تماماً مثل البغض البشري الناس بعضهم لبعض، غفر الله لمن شمت، وحفظ الله الأمّة من شرور أنفسها قبل شرور أعدائها..
قبل 15 عاماً وعندما كنت أقوم بتأليف كتاب "إيران من الثورة إلى الدولة... قراءة في المشروع الإسلامي المقاوِم"، وجدت أن من أبجديات الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 أنها تأقلمت مع الشعور الشعبي الإيراني، هو شعب مسلم يعتزّ بإسلامه، كما يعتزّ بتاريخه، وهو يرفض التغريب، يشعر بفقدان هويته عندما يبتعد عن دينه، ولقد كان الشهيد مرتضى المطهري رائعاً عندما قدَّم كتابه "الإسلام وإيران ... عطاء وامتنان"، إلى الشعوب الإسلامية التي ترفض الهيمنة الاستعمارية، وترفض فُقدان الهوية.
المهم أن شعب إيران شعب قاوم أسرة القاجار وأسرة بهلوي، وحين حاول شاه القاجار، تحت ضغط الديون والإفلاس، أن يعطي شركات أجنبية احتكاراً لصناعات المعادن والنقل والتليغراف وغيرها، قام عليه المجتمع ورجال الدّين والتّجار، لأنهم فهموا أنّ مسار التنازُل السياسي أمام القوى الغربية يقود لفقدان الاستقلال الاقتصادي والسياسي، كما أن المراجع لهم ومازال دور في تلبية طموحات الشعب، ولعلّ أبرز دليل على ذلك الأمر، هو ما حدث أثناء ثورة التبغ عام 1890، والتي انتصر فيها الشعب بقيادة المراجع، وأيضاً وضعوا المشروطة ضمن دستور 1906، التي تضمن فيتو من المراجع ضد ما يخالف الشريعة الإسلامية، ثم ثورة المدرسة الفيضية عام 1963 بقيادة الإمام الخميني، وهي الثورة التي قادت إلى الثورة الكبرى عام 1979، حيث كانت ثورة ضد نظام الشاه وضد الصهيونية وأميركا في وقت واحد، نجحت الثورة في الاستمرار، رغم حرب الثمان سنوات المفروضة والحصار المستمر، ولم يخرج الشعب ثائراً لأنه يُدرك أن الأعداء يريدون رأس المقاومة.
ما نريد قوله من هذه المقدّمة الطويلة نسبياً هو أن نقول إن الشعور الشعبي الإيراني ينضم تلقائياً لدينه قبل كل شيء، ثوراته من عقيدته، وعقيدته من تراثه الديني، قد تحدث تظاهرات فئوية تطالب بمطالب الحياة الضرورية من مأكل أو ملبس أو مسكن، ولكنها لا يمكن أن تتحوّل إلى ثورة تقلب نظام حُكم جاء من خلال رؤية الإيرانيين لدينهم، ربما قبل قوميّتهم، ولا يمكن أن يقوموا بفوضى كما يُخطّط أعداء الأمّة كلها ضدّهم.
ومن ثم فإن مَن يُراهن على ثورة ضد النظام الجمهوري الإيراني، هو إما واهِم أو شامِت أو عدو تقليدي للأمّة متمثّلاً في العدو الصهيوني والإمبريالية الأميركية، وهنا نكتب حول ما حدث مؤخراً في الديار الإيرانية.
فما حدث من تظاهرات محدودة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية آخر العام المنصرم، نجده مجرّد حريق تم إطفاؤه والسيطرة عليه، أو زوبعة في فنجان، ولكن وما أن بدأت تلك التظاهرات في مدينة مشهد، ورغم أنها تظاهرات محدودة، إلا أن خبراء الأزمات والشماتة في الدول العربية والدول الغربية على السواء ما لبثوا أن بشّروا بثورة جديدة أو ربيع إيراني، وعلى المستوى السياسي فقد تحالف محمّد بن سلمان مع مُجرميّ الحرب بنيامين نتانياهو ودونالد ترامب، وتوقّع الجميع اشتعال التظاهرات لمدة طويلة تساعد على توتّر الوضع الداخلي الإيراني، ليلبّوا رغبتهم في التدخّل في الشأن الداخلي الإيراني، ولكن خابَ ظنّ الجميع، وفي الوقت نفسه يُحسَب للموقف الرسمي المصري أنه لم يتفوّه بكلمة رسمية عن الوضع في إيران، تمشّياً مع السياسة الخارجية المصرية التي لا تتدخّل في أي شأن داخلي لأية دولة، وأن أهل مكّة أدرى بشِعابها.
ولكن إعلام الشماتة ظلّ يقود حركة تعبيرية استعمارية مُبطّنة، الكثير من القنوات التي جلبت خبراء يقولون عنهم أنهم خبراء استراتيجيون، يفتون في كل شيء من دون التوغّل في ملف الشعب الإيراني أو ملف المنطقة بأسرها، وجدنا مَن يقول إنها ثورة، ومَن يردّد إنها بين إصلاحيين ومُحافظين، أو بين الرئيس والمُرشد، مُتناسين أن إيران لها مشروع واحد يتّفق عليه الجميع، والخلافات توجد حول تفاصيل الحياة، مثلاً المشروع النووي الإيراني بدأ مع الرئيس محمّد خاتمي الإصلاحي كما يقولون، واستمر مع الرئيس المُحافِظ أحمدي نجاد، وتم توقيع الاتفاق مع الرئيس الإصلاحي الحالي حسن روحاني، أي أن الخلافات لا تدور حول الرؤية الكبرى للدولة، ولم نندهش عندما قال الرئيس روحاني بأنه يتفهّم مطالب المواطنين وحقّهم في التظاهر من دون تخريب، ولكن نغمات تتردّد من فم لأذن، من دون فحص أو وعي أو تمييز.
وفي مصر على وجه الخصوص كان معظم وسائل الإعلام ينحاز للرؤية السعودية، ولكن وُجِد مفكّرون وأصحاب رأي عرضوا وجهات نظر تمتاز بالحيادية والواقعية، مثل الدكتور أسامة الغزالي حرب والدكتور حسن أبو طالب والسفير جمال طه وغيرهم كثيرون حلّلوا الوضع السياسي من خلال تحليل الأحداث سياسياً وليس طائفياً، مع التأكيد على أن الشعور الشعبي العام كان منحازاً ضد الصهيونية رافضاً أي تطبيع مع العدو الصهيوني، ولعلّ أبرز مِثال هو الهجوم المُتوقّع ضد الدكتور سعد الدين إبراهيم رئيس مركز ابن خلدون في القاهرة، لأنه حضر ندوة في تل أبيب عاصمة الاحتلال، مُتحدّثاً عن الثورات المصرية في العصر الحديث، وهو ما يؤكّد أن الشعوب العربية لو اختارت بحرية لاختارت مشروع المقاومة والانتفاضة في الأرض الفلسطينية المحتلة.
ثم هدأ كل هذا الصخب الإعلامي العربي الشامِت بعد أن خمد الحريق الذي أشعله بعض المتظاهرين القلائل المدعومين من الغرب الأميركي والصهيونية العبرية، وانشغل كل إعلام بدولته، وهنا تظهر المسؤولية المهنية والأخلاقية والدينية للإعلام، صحيح أنه لا يُوجد صحافي أو إعلامي ليس له رأي، ولكن الأصل هو أن تكون الرؤى الإعلامية واقعية في التحليل وواقعية في التغطية، ولكن ماذا نقول، والبغض السياسي ليس له نهاية، تماماً مثل البغض البشري الناس بعضهم لبعض، غفر الله لمن شمت، وحفظ الله الأمّة من شرور أنفسها قبل شرور أعدائها...