ماذا تفعل تركيا في إدلب؟

تعمل تركيا في إدلب وريف حلب على تهيئة البيئة الاجتماعية لقبولٍ مديدٍ وربما دائم لوجودها السياسي والعسكري هناك، من خلال إقامة بنى للخدمات الصحية والبلدية والشرطة المحلية، و"تتريك" نظم التعليم وتغيير تدريجي لأسماء عدد من القرى والبلدات، وهكذا تطلق وكالة الأناضول للأنباء على بلدة الراعي إسم "جومان باي"، وصولاً إلى مسخ وتشويه أنماط القِيَم الخاصة بالولاء والانتماء.

يسيطر الكرد بدعم أميركي على ما يقارب ثلث جغرافيا البلد

تتراجع حدّة المواجهات في سوريا، لكن المخاطر في ازدياد، نمط آخر من المخاطر لا يمكن مقارنته بما كان من قبل، على خطورته. يسيطر الكرد بدعم أميركي على ما يقارب ثلث جغرافيا البلد، وتسيطر تركيا على جزء كبير من مناطق الشمال وشمال غرب، فيما تحاول إسرائيل وحلفاؤها الشيءَ نفسه في الجنوب. وإذا ما استمرت خراط السيطرة وخفض التصعيد لفترة طويلة فمن المحتمل أن تتحوّل إلى تهديد بالتقسيم. المشكلة أن الجميع يحذّر من ذلك، فيما الجميع تقريباً، وبمفارقة ضدية، ماضٍ فيه.

يأتي في طليعة هؤلاء، أردوغان الذي عبّر قبل أيام (7 -11-2017) عن أن مجريات المنطقة "لا تتطوّر عشوائيا"، وأن من شأن ذلك "أن يُشكِّل معالمَ القرن المقبل"، مؤكّداً أن كل حادثة من الأحداث التي شهدتها خلال السنوات الماضية هي "فصل من فصول المؤامرة" الموجّهة ضد بلاده. ولابد أن كلامه هذا، ينطبق أول ما ينطبق عليه هو نفسه، إذ تحيل إشاراته المتكرّرة إلى اتفاقات سايكس-بيكو ولوزان وتغيير الجغرافيا والحدود، إلى "مُضمَرٍ" استعماري في سياساته تجاه سوريا والمنطقة، بما يعنيه ذلك من رغبة في الهيمنة وحتى الامتداد الجغرافي في "فضاء عثماني" سابق، كنوع من التصحيح للتاريخ!

تتّسم إدلب وريف حلب بجاذبية كبيرة وقابلية تلقٍ عالية في هذا الباب، ثمة إذاً رغبةٌ وإيجاب، رغبة من جهة تركيا، وإيجاب من جهة الموالين لها في تلك المنطقة. هنا يتحقّق أهم مقوّمين للسيطرة، يبقى توافر  بيئة مناسبة على الصعيدين الدولي والاقليمي.

عملية نشْر القوات التركية في منطقة خفْض التصعيد لا تزال في مراحلها الأولى، وتهيّيء تركيا الأمور بحيث يبدو ذلك استجابةً لمطالب محلية. ومن اللافت أن الجماعات المسلحة نفسها ومن بينها "جبهة النصرة" و"كتائب ابن تيمية" و"حركة الزنكي" وغيرها تدعو الجيش التركي للانتشار في مناطق التماس مع الجيش السوري أو مع قوات سوريا الديمقراطية.

بالإضافة إلى إدارة الصراعات والتحالفات بين الجماعات المسلحة، فإن تركيا تدفع في الوقت نفسه لتشكيل كيان مسلح موحّد، وموالٍ لها، تحت اسم "جيش وطني" يتبع حكومة الائتلاف. وتدير  مع جبهة النصرة "حكومةَ الإنقاذ" التي أعلنتها الأخيرة في إدلب.

تعمل تركيا في إدلب وريف حلب على تهيئة البيئة الاجتماعية لقبولٍ مديدٍ وربما دائم لوجودها السياسي والعسكري هناك، من خلال إقامة بنى للخدمات الصحية والبلدية والشرطة المحلية، و"تتريك" نظم التعليم وتغيير تدريجي لأسماء عدد من القرى والبلدات، وهكذا تطلق وكالة الأناضول للأنباء على بلدة الراعي إسم "جومان باي"، وصولاً إلى مسخ وتشويه أنماط القِيَم الخاصة بالولاء والانتماء.

وتعتزم تركيا منح جنسيتها للأطفال السوريين المولودين في تركيا، ومنحها تلقائياً لعائلاتهم بعد ذلك، وقد سبق لها منح الجنسية لحمَلَة الشهادات العليا ورجال الأعمال وغيرهم، كما منحت الجنسية لكثير من التركمان السوريين، و"اختلقت" هويةٍ كيانيةٍ لهم. وثمة مخاوف من أنها تتّجه لتعميم ذلك على السوريين في مناطق سيطرتها وسيطرة الجماعات الموالية لها في إدلب وريفها وفي ريف حلب، بهدف التأثير على اتجاهات الناس في أية تسوية سياسية مقبلة، وصولاً إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو خلق واقع اجتماعي وثقافي وسياسي يتوافق مع أطماعها الجغرافية الكيانية في شمال سوريا، وفي ذلك – على ما يبدو- استعادة لتجربتها السابقة في سلخ لواء اسكندرون (1939). 

وفي حين تعلن دمشق على لسان المستشارة الرئاسية بثينة شعبان أن "تركيا اليوم هي دولة محتلة تتواجد قواتها على أرضنا بشكل غير مشروع تماماً كما القوات الأميركية" (الميادين، 6-11-2017)؛ فإن موسكو تعلن موافقتها ودعمها لما تقوم به تركيا، بل إنها تتعجّل خطواتها بهذا الخصوص، وتعلن على لسان المبعوث الرئاسي الروسي إلى سوريا الكسندر لافرنتييف إنها "تلعب دور الوسيط" بين سوريا وتركيا حول ما يجري في إدلب. ومن غير الواضح كيف تمضي روسيا قدماً مع تركيا بخصوص إدلب، خلافاً لموقف إيران التي قالت على لسان علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الأعلى خلال زيارته لدمشق: "قريباً سنمشّط شرق سوريا ثم منطقة إدلب في الغرب". (7-11-2017). ولو أن إيران تتجنّب الانتقادات المباشرة لتركيا بهذا الخصوص.

ما تقوم به أنقرة في إدلب، هو نوع من القضْم المعنوي والمادي طويل المدى، يتم بسهولةٍ ويُسرٍ مُريبين، بانتظار اللحظة التي تتمكّن فيها دمشق وحلفاؤها من وضع حد لتلك المغامرة في الجغرافيا السورية.