ما العمل؟
بعد هذا النزيف العربي الأخير الذي طال شعبنا العربي في قراه ومدنه والذي تسبب بآلام لا توصف وهجرة غير مسبوقة أو ليس من الضروري إعادة النظر بالمنظومة الفكرية التي كانت تحكم تصرفاتنا وأعمالنا إلى حد الآن، وضرورة استبدالها بمنظومة أجدى وأنفع نستقيها من تجارب الآخرين وتجاربنا؟ في هذه المرحلة من تاريخ أمتنا لا بد من وقفة جدية مع الذات ومكاشفة صريحة وواثقة مع التاريخ وإعادة تقييم كل ما كتبناه وفعلناه في العقود الماضية.
بعد مئة عام من وعد بلفور وكل ما سبقه وكل ما تلاه، وبعد مئة عام من اتفاقية سايكس بيكو وبعد كل ما حفل به تاريخنا العربي من نكسات ومطبات وعثرات وهنّات وبعد أن راقبنا بشعور مرير قصف بغداد وتدمير نمرود والهجمات الوحشية على حلب وتدمر والرقة ودير الزور، والتواطؤ الغربي مع بعض العرب على ليبيا واليمن، بعد كل هذا وذاك ماذا نحن فاعلون؟ هل يستمرّ العرب بالأساليب ذاتها التي استخدموها والتي برهنت أنها لا تجدي نفعاً أم يثورون على أنفسهم فيعيدون النظر بكل آليات العمل المتبعة إلى حد الآن ويتدارسون الأوضاع ويتمعنون خاصة بالأساليب التي اتبعها عدوهم للإيقاع بهم محاولين الاستفادة منها للرد عليه؟ بعد هذا النزيف العربي الأخير الذي طال شعبنا العربي في قراه ومدنه والذي تسبب بآلام لا توصف وهجرة غير مسبوقة أو ليس من الضروري إعادة النظر بالمنظومة الفكرية التي كانت تحكم تصرفاتنا وأعمالنا إلى حد الآن، وضرورة استبدالها بمنظومة أجدى وأنفع نستقيها من تجارب الآخرين وتجاربنا؟ في هذه المرحلة من تاريخ أمتنا لا بد من وقفة جدية مع الذات ومكاشفة صريحة وواثقة مع التاريخ وإعادة تقييم كل ما كتبناه وفعلناه في العقود الماضية.
ولكن وقبل أن نتمكن من فعل هذا يجب أن تجتمع النخب العربية وأن تعيد الاعتبار لذاتها وأن تكون في مركز الحدث وأن تقدّم من الفكر والرؤية ما يحدث فرقاً في مسار الأحداث ومن هنا، وبغض النظر عن الوضع الحكومي في الأقطار العربية المختلفة فإن النخب العربية مدعوة اليوم كي تتواصل وتتحاور وكي تجد أفضل السبل لإقامة ورشات عمل مستمرة في أكثر من مكان وعلى أكثر من صعيد إلى أن تتوصل إلى رسم استراتيجيات منطقية ومعقولة وواعدة من أجل مستقبل أفضل للعرب جميعاً ولا بدّ لهذه النخب أن تحسم مواضيع كثيرة طال الجدل فيها من دون طائل من موضوع الهوية إلى موضوع العروبة والاسلام إلى موضوع الأقطار ضمن الوطن الواحد إلى موضوع المواطنة في كل بلداننا العربية إلى موضوع الشباب والهجرة.
إن الموضوع الأخير موضوع الشباب يستحق من النخب العربية وقفة جادة فالوطن العربي هو المكان الوحيد الذي يولد فيه الشباب ويترعرع وأعينه شاخصة على بلاد الغرب وليس على بيته ووطنه ونحن في بلداننا نقدّم الخدمات والتعليم للأطفال واليافعين والشباب فقط كي نقدّمهم هدية متسلحين بالعلم والمعرفة ليساهموا في بناء أوطان الغير مخلفين وراءهم أوطاناً تفتقر إلى المختصين والعلماء والمبدعين.
لا شك أن الخلل كامن في واقعنا الذي لا يوفّر للشباب فرص عمل كريمة تمكنّهم من بناء مستقبل لهم بجوار أهليهم وأحبتهم كما لا يوفّر لهم الفرص الإبداعية والمناخ الذي يساعدهم على مواصلة البحث والابتكار. وفي النتيجة ما العمل؟ هل نبقي على الإحصائيات التي تتحدث عن آلاف الأطباء والعلماء والمخترعين العرب في الولايات المتحدة وأوروبا أم نقف وقفة جادة مع هذا الواقع ونفعل كل ما هو مطلوب كي تبقى خيراتنا البشرية في ديارنا وكي نتمكن من تفجير طاقات هذه الخيرات بحيث تسهم مساهمة جادة وفعّالة في رفعة وتميّز الأوطان.
ولنا في الهند مثال أكيد حيث اعتمدت الهند على تمييز النخب وتشجيعها والحفاظ عليها، النخب السياسية والاقتصادية والفكرية، رغم وجود نسبة عالية من الفقر في الهند، ورغم وجود فوارق طبقية، ورغم وجود أكثر من عشرين لغة فقد صعدت الهند في ميزان القوى العالمي صعوداً مرموقاً وأثبتت قدرتها وجدارتها كدولة بين الأمم. في أعقاب سنوات دامية على بلداننا لا بدّ لنا من أن نتوقّف أيضاً مع تجارب الآخرين وأن نستفيد من التجربة الأقرب لواقعنا وشعبنا ونمط حياتنا، وأن نرسي الأسس المتينة لتوجيه الثقافة الشعبية في الاتجاه الذي ترتأيه وتتوصل إليه النخب الوطنية المؤمنة بشعبها وديارها.
إن ما نحتاجه ليس أقلّ من ثورة فكرية تعيد ترتيب الأولويات في عالمنا العربي وتتخلّص من الشوائب التي عرقلت مسيرتنا وتلغي صفة القدسية عن كثير من العادات والتقاليد التي أثبتت عدم جدواها في مسيرة التقدّم والازدهار وتؤسس لثقافة جديدة مدروسة ترسم أهدافها الاستراتيجية لمئة عام مقبلة. وكما أن أول الغيث قطرة فإن مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، والمثل الشعبي يقول "العتبة نصف الطريق" إذ لا بد أن نكون اليوم على عتبة تغيير مدروس وحقيقي وواعد للأمة وأبنائها جميعاً.