أمن دور للمؤسسات الدينية التقليدية في بروز العنف المسلح؟
شئنا أم أبينا، لقد أضحى الإسلام في موضع دفاعيّ يرافع عن نفسه، دافعاً تهماً ألصقت به، من توليد التطرف واستيلاده إلى إلهام العنف وتغذيته، ومن معاداة الحداثة الغربية بشتى إفرازاتها إلى رغبته في الصدام مع كل ما هو مختلف، وفق معادلة صراع صفرية، لا مجال فيها للمساومة أو التفاوض.
الحملة على الإسلام لم تعد تقتصر على مفكر غربي متطرف، بل استحالت ظاهرة أكاديمية وشعبوية في المجتمعات غير المسلمة، غربية وشرقية. ومعها يحتاج الإسلام أهله والحاملين لدعوته إلى بذل المزيد من الجهد فكراً وتأصيلاً وسلوكاً لمواجهة هذه الضغينة الملتبسة بأجندات سياسية وأيديولوجية. وما يهمنا هنا، في هذا المقال هو اختبار مفردة من مفردات الاتهام، أي المحاججة حول دور المؤسسات الإسلامية التقليدية في بروز التطرف وتغذيته؟
إن أغلب الدراسات التي أجريت على الشخصيات التي شكّلت وهندست وعيّ الجماعات الجهادية المتطرفة لم تكن في مجملها الأعمّ وافدة من المؤسسات الدينية التقليدية على الإطلاق. فشخصيات مثل عبد القادر بن عبد العزيز (الدكتور فضل)، صاحب كتابي "العمدة في إعداد العدة" و"الجامع في طلب العلم" اللذين ألهما كل جماعات العنف المسلح من "الجماعة الإسلامية" و"الجهاد" المصريين إلى "القاعدة"، و"أيمن الظواهري"، و"أسامة بن لادن"، و"أبو مصعب الزرقاوي"، و"أبو مصعب السوري"، وكل قيادات "داعش" دون استثناء، فلا نعلم أحد منهم وفد إلى هذا الطريق، قادماً من مؤسسة دينية باستثناء العالم الأزهري "الشيخ عمر عبد الرحمن" الذي لم يكن ليقاس تشدده بمن جاء بعده على الإطلاق. وبعض هؤلاء، وإن كان تمدرس قليلا في المدارس الدينية التقليدية إلا أنه لم يكمل فيها دراسته، وسرعان ما نكص أو بدّل ما تلقى فيها من علوم ومعارف. وعلى مذهب من يعتبر "أبو الأعلى المودودي" و"سيد قطب" من الآباء المؤسسين لظاهرة التكفير الحديثة، فإنه لا يمكن له برهنة أن أحداً من هذين قد تخرج من مؤسسة دينية تقليدية أو تلقى علومه الشرعية على يد عالم دين معتبر ومشهود له بالعلم.
لا نقل ذلك سعياً لتبرئة المؤسسات الدينية أو النصوص والمناهج التي تُدرّس في المؤسسات الدينية، بل نرفض المغالاة في اتهامها. وهي إن ساهمت في جزء من الظاهرة دون قصد، فإنها كانت من أسبق المؤسسات الاجتماعية في علاج الظاهرة ومكافحتها.
بل نجد ما هو أغرب من ذلك، أن النصوص الأولى لتيارات "الإسلام السياسيّ" تبدو بريئة تماماً من ظاهرة العنف، رغم أن كثيرين من الباحثين الموصوفين بالجدّة في البحث يحملونها المسؤولية الكاملة في ظهور موجات التطرف الفكرية والسلوكية التي ضربت العالم منذ النصف الثاني من القرن المنصرم. فإذا عدنا إلى أدبيات مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا نجد أن موقفه من التكفير واضح تماما ومنضبط بمحددات لا تخرج عن إطار ما هو معتمد لدى أهل السنة والجماعة قديماً وحديثاً. يقول البنا في الأصل العشرين من أصوله "ولا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما برأي أو بمعصية، إلا إن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلومات من الدين بالضرورة، أو كذّب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر".
بل نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فنجد أن المراجعات (وما أكثرها) التي أجرتها الجماعات الجهادية المتطرفة بعد ممارستها العنف لعقود، قد تبرأت من سلوكها القديم وأعادت ضبط مصطلحاتها وضيّقت باب تكفير المجتمع والدولة والنظام السياسي، واقتربت كثيراً من أدبيات وأطروحات الإسلام السياسي الموصوف بالاعتدال النسبي في جدلية العلاقة مع الدولة والمجتمع والآخر غير المسلم.
إقرأ إن شئت "نهر الذكريات" للجماعة الإسلامية في مصر، أو "وثيقة ترشيد العمل الجهادي" أو "تصحيح المفاهيم والمراجعات" أو غيرها من الكتب التي أصدرتها غير واحدة من الجماعات المقاتلة.
سنكتفي بمثال واحد يوضّح ما نذهب إليه، ففي مراجعات "الجماعة الليبية المقاتلة" المقيد بوريقات تحت عنوان "دراسات تصحيحية" نجد هؤلاء قد ذهبوا في قولهم الجديد أن الإسلام الثابت بيقين لا يمكن سقوطه إلا بيقين، استناداً على القاعدة الشرعية المتفق عليها بين الفقهاء " اليقين لا يزول بالشك".
تحدد الوريقات آنفة الذكر ثبوت أصل الإسلام عند المرء بواحدة من خصال ثلاث: 1) إطلاق شهادة التوحيد أو الإتيان بما يقوم مقامها كأن يقول المرء "أسلمت" أو "أنا مسلم" .2) التبني لقول أو عمل أو شعار اختص به المسلمون، وتميزوا به عن غيرهم، كالصلاة، أو الآذان أو اللباس الذي اختص به المسلمون، ونحو ذلك. 3) التبعية للأبوين المسلمين أو أحدهما: فالأصل الإسلام في كل من ولد لأبوين أحدهما أو كلاهما مسلم، أو التبعية لدار الإسلام بالنسبة.
ومن ثبت إسلامه في وجه من هذه الوجوه، فلا يجوز إخراجه من الإسلام بأي حال، إذ إن احتمالية تحقق اليقين في ثبوت الكفر على المسلم أمر لا يمكن لأحد أن يجزم به طالما أن جزءاً من الأمر قلبيّ أي مرتبط بـ"النّيّة" التي لا يطلع عليها إلا الله، ولإمكانية وجود شبهة لم يتمكن أحد من إجلائها للمتهم بالكفر، إلى غير ذلك من الضوابط التي تعامل معها المسلمون بصرامة شديدة خوفا من تداعيات سيولة استعمال المصطلح أو توظيفه لتصفية الحسابات السياسية لا سيما وأن سلاطين وأمراء في التاريخ الإسلامي كانوا إذا أرادوا التخلص من منتقد معارض لهم رموه بالزندقة والباطنية واستعانوا ببعض الفقهاء على تشريع قتله.