رفقاً بالقارئ!!!
وأنا أتابع الأحداث السياسية وتصريحات المسؤولين في دول كبرى، أفكّر بالقارئ غير المختصّ وما عساه أن يفهم من كلّ هذه التصريحات المتناقضة والأخبار التي لا تسلك طريقاً واحداً، ولا تبدو أنها تهدف الوصول إلى محطّة واحدة.
وبغضّ النظر عن دقّة ما أدلى به المبعوث الخاص، أو حيثياته التي كان ربما من مهمّته التطرّق إليها، فقد انبرت سفيرة الولايات المتحدة، سامانثا باور، لتضفي لهجة متشدّدة على ما قاله دي ميستورا، موجّهة أقوالها ضمناً إلى الحكومة السورية، ومتحدّثة عن إحباط دي ميستورا من عدم وصول المساعدات الإنسانية، والأخطار الحقيقية المحدقة باتفاق وقف الأعمال القتالية. ولكن القصة لا تكمن باختلاف تفسير باور لما قاله دي ميستورا عن السياق العام لحديثه، ولكنها تكمن في اختلاف تصريحات باور عن السياق العام لتصريحات كلّ من وزير خارجية ورئيس الولايات المتحدة، وهي التي يفترض أنها تمثلهما في أقوالها، وتشرح ما يقصدان في تصريحاتهما. ففي الوقت الذي يتواصل فيه الرئيس أوباما مع الرئيس بوتين حول مكافحة الإرهاب في سورية، بغضّ النظر عن صدق نوايا البعض وعدم صدق بعضها الآخر، فإنّ سفيرة الولايات المتحدة إلى مجلس الأمن تدور في فلك سياسي يخصّها هي وقناعاتها بعيداً عن الإدارة التي يُفترض أنها تمثّلها. فها هي تتجاوز كلّ تصريحات المسؤولين في الإدارة الأمريكية لتقرّر أنه على "روسيا مسؤولية خاصة للضغط على نظام الرئيس السوري بشار الأسد لكي يلتزم باتفاق وقف الأعمال القتالية"، متجاهلة المجازر التي ارتكبها الإرهابيون في جبلة وطرطوس والزارة وحلب، وهجماتهم اليومية على أحياء سكنية في حلب وكفريا والفوعة. وتابعت باور "نعتقد أنّ الحلّ هو مواصلة الضغط على روسيا وإيران لاستخدام نفوذهما على حكومة الأسد". والسؤال هو لمن تتبع النون هذه في "نعتقد"، هل هي تفخيم لموقع سفيرة في مجلس الأمن؟ أم أنها تنطق باسم وزير خارجيتها ورئيسها في عبارات لا يريدون هم نطقها؟ أم أنّ ضعف الإدارة الأمريكية والدولة هناك قد أوحى إلى سفيرتهم في مجلس الأمن أن تعبّر عن أهوائها ورغباتها اليمينية المعروفة، والتي تتناقض في كثير من الأحيان مع ما يريده رئيس الولايات المتحدة ووزير خارجيتها؟ أم إنها تعبّر عن تيّار داخل الإدارة الأمريكية مستقلّ بآرائه عن الإدارة؟!! وقد يكون السرّ المعلن اليوم في الأروقة السياسية العالمية هو أنّ هناك أكثر من قرار في الولايات المتحدة، وأنّ تناقض هذه القرارات هو الذي ينتج الضعف في تنفيذ أيّ التزام يتوصلون إليه مع القيادة الروسية. وها هي بعض القوات الأمريكية تلبس شارة ميليشيات القوات الديمقراطية في هجومها على الرقّة، بينما يتنصّل مسؤولون أمريكيون من هذه الحركة، ويقولون لا توجد أوامر لديهم بارتداء مثل هذه الشارات. وهاهم المسؤولون الروس يعبّرون عن استغرابهم من عدم تنفيذ الولايات المتحدة لأيّ من التزاماتها بما يخصّ الفصل بين من تسمّيهم واشنطن بالمعارضة المعتدلة عن جبهة النصرة، رغم أنّ جون كيري قد صرّح حين تمّ التوصّل إلى اتفاق فيينا أنّ أيّ مجموعة مسلّحة لا تلتزم بوقف العمليات القتالية ستلقى محاربة شديدة من قبلنا، ولكنّ هذا الكلام بقي حبراً على ورق، كما بقي مجلس الأمن الذي اعتبر جبهة النصرة إرهابية مثلها مثل داعش، وقرارات أخرى لا تُحصى، كانت الولايات المتحدة متبنّية لها قبل صدورها وبعده ولكنّها لم تخْطُ خطوة واحدة من أجل تنفيذ هذه القرارات. والسؤال هو هل ما يشهده القارئ من اختلاف وتناقض، يصل إلى حدّ التخبّط بين المسؤولين الأمريكيين، هل هو توزيع أدوار منسق بينهم مسبقاً، أم هو نتاج تفكك داخلي في الإدارة الأمريكية، ووهن في مفاصل القيادة الحقيقية؟ أم هو تمرّد لدى بعض الجهات الكبرى المسؤولة هناك بحيث لم يعد هناك رأس واحد، بل رؤوس متعددة تقود العمل حسب انتماءاتها ومعتقداتها وأهوائها؟ إذ بالإضافة إلى خطر الإرهاب الذي نواجهه جميعاً اليوم، فإنّ عدم وجود قيادات حاسمة، وعدم التزام ما وجد منها بالقرارات التي تُتّخذ يُطيل أمد الصراع، وبشكل غير مباشر يعطي المدّ للإرهاب والإرهابيين، حيث تدفع شعوبنا على الأرض فاتورة القوّة والضعف في إدارات عبر البحار، كما أنّ أرض بلادنا تعاني من كلّ مفرزات الحرب والقنابل والسموم التي تطلق في الأجواء. فها هو قائد العمليات الجوّية الأمريكية في الشرق الأوسط، الجنرال تشارلز براون، يعلن أنّ المقاتلات الأمريكية قد ألقت 576.82 ألف قنبلة ذكية في العراق وسورية في العام 2015، ولكنه لا يسأل طبعاً ماذا فعلت هذه القنابل بأرضنا وهوائنا ومياهنا وبحياة وسلامة الملايين من شعبنا، بل إنه يعلن ذلك كي يستقدم المزيد من الموت إلى ديارنا بذريعة مكافحة الإرهاب الذي لم يكافحوه أبداً، بل زرعوه ويعملون على سقايته وتنميته وتوجيهه الوجهة التي يريدون. في خضمّ التلاعب بأرواح الناس، وبسيادة البلدان، وإطالة أمد الصراعات لأسباب لا تتعلق بمصلحة البشر، بل تبني أهدافها على قبورهم ومعاناتهم، أقول رفقاً بالقارئ، لأنّ اللغة تحمل المعنى وعكسه في زمن عزَّ فيه الصدق، وتأوّهت الكلمات تحت وطأة نفاق التعابير والنوايا الخطيرة الكامنة خلفها.