عبد الناصر في 23 يوليو مشروع العروبة التحررية
المشروع العربي التحرّري إفترض ويفترض بالضرورة إعادة بناء الهويّة العربية وفق الوقائع والحقائق التاريخية الجديدة. فالهويّة كما تعلّمنا أدبيات القومية والفكر الإنساني ليست جوهرانية الطابع مُطلقاً، بل هي تاريخية، مرنة، ومُتغيّرة. هذا يعني أن مشاريع تشكيل الهويّة القومية التحرّرية والمناهضة للإستعمار، أو الهويّة العربية الحقيقية، كما هي في حالة عبدالناصر، ممكنة تاريخياً. لكنه يعني أيضاً أن مشاريع هويّات الفتنة والتجزئة والحروب الأهلية، أو العروبة المضادّة، ممكنة أيضاً. ولهذا فإن رفض ومقاومة هويّات الفتنة ليست مسألة أخلاقية فقط، بل سياسية وتاريخية، وفي حالتنا العربية اليوم وجودية حتماً.
فتأسيس الكيان الصهيوني والهزيمة العربية في عام ١٩٤٨ أسسا للردّة المصرية الثانية نحو الإنعزال والتبعية بعد مرحلة مؤقّتة وقصيرة من الإنفتاح الإقليمي في نهاية الأربعينات فرضتها ظروف حرب ١٩٤٨ والتنافس المصري مع الهاشميين وآل سعود حينها، كما كتب ياسين الحافظ في "الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة".
أما الردّة المصرية الأولى، والأهم، وذات التبعات الهائلة للإنعزال فقد أسّس لها "تحطيم بريطانيا لمشروع محمّد علي في المشرق العربي" وإخضاع مصر للتبعية، كما كتب محمّد أنيس في "القومية العربية". لم تكن سياسة الإنعزال ولا سيادة الأيديولوجيا الإنعزالية في تاريخ مصر السياسي، إذن، إلا نتيجة للهزائم وإستجابة لشروطها التي أنتجت في ما أنتجت تبعية شاملة للخارج وخسارة شبه مُطلقة للإستقلال.
كان هذا يعني، بالضرورة، أيضاً أن "مصير مصر عربياً من الناحية السياسية"، ويعني أنه لا يمكن لمصر المستقلّة والحرّة إلا أن تكون عربية، كما استنتج جمال حمدان في عمله الموسوعي "شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان" (ج٤، ص:٦٣٨). وهذه الخلاصة التي وصل إليها الباحث العربي الفذّ جمال حمدان لم تكن مدفوعة بعواطفه القومية، بل نتيجة لتأريخه المُفصّل "لملحمة الجغرافيا الكبرى" التي أنتجت مكان ومكانة وموقع وموضع مصر.
كانت هذه الخلاصة نتيجة أربعة مجلدات وأكثر من أربعة آلاف صفحة من العرض المُفصّل لعلاقة جغرافيا مصر بتاريخها، لتفاعل الزمان والمكان الذي أنتج مجال مصر التاريخي. لهذا بالضبط يربط حمدان وبعبقرية في سرديّته الطويلة سياسة العزلة المصرية بالتبعيّة والتخلّف الإقتصادي والإجتماعي الذي عانته مصر في عهود العزلة.
كان على عبدالناصر، إذن، أن يقطع مع التاريخ السياسي المصري منذ هزيمة محمّد علي وأن يؤسّس لإنعطافة تاريخية في السياسة والأيديولوجيا المصرية. فناصر كان يُدرك أن إعادة تشكيل المجال الجيوسياسي شرط ضروري للتحوّل الإجتماعي والإقتصادي ومُقدّمة أساسية لبناء دولة جديدة ومستقلّة.
ربما لهذا السبب عرض الرئيس الراحل عبدالناصر رؤيته الإستقلالية والتحرّرية وكثّف معنى وجوهر ثورة ٢٣ يوليو بشعار فذ: "لقد مضى عهد العزلة". (فلسفة الثورة، ص: ٩٠). والعزلة التي إنقلب عليها عبدالناصر ليست مجرّد واقع جيوسياسي أسّس له تحطيم بريطانيا لمشروع محمّد علي في المشرق العربي أولاً وتأسيس الكيان الصهيوني كإمتداد للإستعمار الغربي لاحقاً فقط، بل كانت العزلة التي انقلب عليها رؤية أيديولوجية سائدة فرضتها شروط الهزيمة حينها ومصالح النخبة المصرية التابعة للإستعمار وقادت في ما قادت لتشوّه الوعي المصري بالذات وبالعالم، وساهمت في إلتباس الموقف المصري من الكيان الصهيوني في البداية.
بهذا المعنى، كان تَوَجُّهْ ناصر الإستراتيجي الجديد وإنعطافته التاريخية هما بالضبط ما مكّن إنقلاب الضبّاط الأحرار في ٢٣ يوليو ١٩٥٢ من التحوّل إلى ثورة جذرية في السياسة والإقتصاد والإجتماع في مصر لم تكن ممكنة إلا في سياق جيوسياسي جديد ومختلف، وهو ما وضع مشروعه بالضرورة في مواجهة القوى الإستعمارية الغربية التي هيمنت على المنطقة ككل. فناصر أدرك تدريجياً، إن لم يكن منذ البداية كما يُشير نص "فلسفة الثورة"، أن التحوّلات السياسية والإقتصادية والإجتماعية في مصر غير ممكنة من دون إنقلاب جيوسياسي وإعادة ترتيب إقليمي، بالحدّ الأدنى، تكون العروبة، هذه المرّة، محوره وحلقته المركزية.
لكن مفاعيل الإنقلاب الجيوسياسي الناصري لم تكن مصرية بحتة في الحقيقة. فإنعطافة ناصر التاريخية وإنقلابه على الأيديولوجيا الإنعزالية التي حكمت النخبة المصرية حتى ثورة ٢٣ يوليو، أعطت كذلك معنى وبعداً ومضموناً سياسياً وإستراتيجياً جديداً للعروبة كانت تفتقده حتى جاء عبدالناصر، وأسّست، بالتالي، ولأول مرّة، لمشروع قومي عربي قادر مادياً على التغلّب على التبعية وتحقيق الإستقلال والتحرّر العربي الحقيقي.
هكذا نفهم دور مصر في الجزائر (ومعاداة فرنسا لعبدالناصر) ودور مصر في اليمن (وصراعه مع آل سعود)، ووحدة مصر وسوريا (إقليم مصرالشمالي، كما أصبح يُعرف وفق رؤية الأمن القومي المصري الجديدة)، وفوق كل ذلك دور مصر في فلسطين ("رفح ليست آخر حدودنا"، كتب الرئيس عبدالناصر).
فالعروبة، بهذا المعنى، ليست مجرّد روابط ثقافية ولغوية، وبالتأكيد ليست رابطة دم على الإطلاق. فوجود العرب الثقافي لوحده غير كفيل بتحرّرهم وإستقلالهم وإن كان ضرورياً لإستمرايتهم كأمّة (هذا بالضبط ما أغفله بعض مؤرّخي نكبة فلسطين بتركيزهم على البُعد الثقافي فقط كأساس لوحدة الأمّة العربية). المضمون السياسي والإستراتيجي للعروبة هو الكفيل فقط بتحويل العروبة إلى مشروع تحرّري وإستقلالي قادر على مواجهة التحديّات الكبرى التي واجهت وتواجه العرب في عصر الإمبراطوريات الكبرى. هكذا، إن شئتم، يكبر العرب وتصغر "إسرائيل".
وهذا المشروع العربي التحرّري إفترض ويفترض بالضرورة إعادة بناء الهويّة العربية وفق الوقائع والحقائق التاريخية الجديدة. فالهويّة كما تعلّمنا أدبيات القومية والفكر الإنساني ليست جوهرانية الطابع مُطلقاً، بل هي تاريخية، مرنة، ومُتغيّرة. هذا يعني أن مشاريع تشكيل الهويّة القومية التحرّرية والمناهضة للإستعمار، أو الهويّة العربية الحقيقية، كما هي في حالة عبدالناصر، ممكنة تاريخياً. لكنه يعني أيضاً أن مشاريع هويّات الفتنة والتجزئة والحروب الأهلية، أو العروبة المضادّة، ممكنة أيضاً. ولهذا فإن رفض ومقاومة هويّات الفتنة ليست مسألة أخلاقية فقط، بل سياسية وتاريخية، وفي حالتنا العربية اليوم وجودية حتماً.
إنعطافة عبدالناصر في أعقاب ثورة ٢٣ يوليو عكست إدراكه العميق أن الإستعمار هو اللحظة المركزية في الصراع والهيمنة على المنطقة العربية (فحتى "إسرائيل" كما قال، "لم تكن إلا أثراً من آثار الإستعمار").
وعبدالناصر عرف كذلك، ولذلك، أن مصر، أو أية دولة عربية، لا يمكن لها أن تكون حرّة ومستقلّة لوحدها في عالم وإقليم وزمان ومكان كعالمنا وإقليمنا وزماننا ومكاننا. وعرف، قائد ثورة يوليو، أيضاً، ما عرفه مفكّرو مصر منذ عهد محمّد علي إلى يوم كتابته لمقدّمة كتاب حسين مؤنس "مصر ورسالتها"، أن مكانة ومكان وموقع وموضع مصر لا تجعل من مصيرها عربياّ من الناحية السياسية فقط، بل، وكما قال جمال حمدان، تجعل كذلك، وبنفس القدر، مصير العرب مصرياً من الناحية الحضارية.
ثورة عبدالناصر
عروبة هيكل
مأساة السادات ملهاة مرسي: تشريح مُختصر لرئيس إخواني