مرجعية أستانة بين مخافتين
لم تقل روسيا إن عملية أستانة تقطع مع عملية جنيف، ولا إنها تعمل على تأسيس مرجعية جديدة تنسخ مرجعيتها، إلا أن التقديرات ذهبت –بما يشبه الإجماع- إلى أنها أقامت بالتعاون مع إيران وتركيا عملية أو دينامية موازية، غير مطابقة لعملية جنيف ولا مفارِقة لها أو منفصلة عنها بالتمام.
مرجعية أستانة التي يجري الحديث عنها تستند إلى مجمل العملية التي أفضت إلى عقد المؤتمر، وهي لا تقف عند المؤتمر وبيانه الرسمي، وإنما تتعدّاهما إلى مسارات أو منصّات أخرى للمداولة والتراسُل تضمّنت أموراً على قدر كبير من الأهمية، من قبيل: زيادة الاتصالات الروسية مع الجماعات المسلّحة، وتشجيع "الاتصالات المباشرة بين دمشق والمعارضة على الأرض" والتي "تزايدت خلال الآونة الأخيرة" على حد تعبير ألكسندر لافرينتييف مبعوث الرئيس الروسي إلى سوريا ورئيس الوفد الروسي إلى مفاوضات أستانة (تصريحات 24 كانون الثاني/يناير ). ثم كان المقترح الروسي حول دستور جديد لسوريا المستقبل لم يقع موقعاً حسناً لدى كثير من السوريين. تستند مرجعية أستانة إلى إعلان موسكو (20 كانون الأول/ديسمبر 2016) والاتفاقات الثلاثة التي تم توقيعها وهي بتعبير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: "الوثيقة الأولى بين الحكومة السورية والمعارضة المسلّحة لوقف النار على أراضي الجمهورية العربية السورية. الوثيقة الثانية عبارة عن إجراءات لمراقبة وقف إطلاق النار. والوثيقة الثالثة — إعلان الاستعداد لبدء المفاوضات السلمية للتسوية السورية". (تصريحات: 29 كانون الأول/ديسمبر 2016). المقولة المعلنة لـ "مرجعية أستانة" هي أن حل الأزمة السورية يتطلّب العمل على ضبط العمليات العسكرية ومستوى العنف، والتوصّل إلى وقف إطلاق النار دائم، وتركيز الجهود على مكافحة تنظيمي "داعش" و"جبهة النصرة" والجماعات المسلّحة التي ترفض الدخول في عملية أستانة، والتوسيع التدريجي لمروحة الملفات محل المداولة والتفاوض لتشمل الجوانب السياسية. الإضافة الهامّة لمرجعية أستانة أنها تبدأ بإشراك الجماعات المسلّحة التي لها تأثير في الميدان، وصولاً إلى تشكيل دينامية تفاوض مركّبة تتمثّل فيها المعارضة بوفد أو وفود من التكوينات أو الفواعل المسلّحة والمدنية، من داخل سوريا وخارجها. وتحاول المرجعية إياها الاستجابة لهواجس وأولويات مختلف الأطراف المؤثّرة في المشهد السوري، وخاصة إيران وتركيا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأردن ودول الخليج وأوروبا والولايات المتحدة، بحيث أن موسكو أطلقت مساراً موازياً لمفاوضات أستانة تمثّل بالانفتاح الكبير على تركيا، وزيادة الاتصالات المباشرة مع الجماعات المسلّحة ذات الولاءات والتبعيّات المختلفة، كما فعلت الشيء نفسه مع الائتلاف المعارض. وتؤكّد موسكو في كل مناسبة أن ما تقوم به، ليس بديلاً عن عملية جنيف، وتدعو الولايات المتحدة وأوروبا وغيرها إلى المشاركة في جهودها المستمرة لحل الأزمة السورية. كانت مرجعية جنيف1، التي ساهم الوزير سيرغي لافروف بصوغها، ولم تحضرها سوريا وإيران، تحويلاً للمقاربات العسكرية للأزمة إلى مقاربة سياسية، اليوم تعمل مرجعية أستانة على تحويل المقاربة السياسية إياها، والتي أثبتت فشلها إلى مقاربة عسكرية، ولكن برؤية مختلفة تستند إلى المعطى الميداني وتبدأ بـ"تجميد" الوضع العسكري بين الحكومة والجماعات المسلّحة "غير المصنّفة إرهابية" أو ما يُعرف بـ "جماعات أستانة"، والتأكيد على مكافحة الإرهاب، وفي الوقت نفسه تنشيط الجانب السياسي. يتوقّف نجاح مرجعية أستانة على مدى التزام صانعيها وضامنيها بها، وإيفائهم بمتطلباتها، ومدى التفّهم الاقليمي والدولي لها، وهي مرجعية دونها تحدّيات ومخاطر كبيرة من قبيل: - تمريرها دولياً من خلال قرار لمجلس الأمن، ومن غير المتوقّع أن يحدث ذلك بسهولة. - التأويل غير البنّاء لما تم الاتفاق عليه، وهو ما بدا واضحاً في خطاب الجماعات المسلّحة وعدد من حلفائها حول مضامين البيان الختامي. - بروز مصادر تهديد جديدة وغير متوقّعة، من قبيل إعلان الرئيس ترامب عزمه إقامة "مناطق آمنة" في سوريا. - حدوث نكوص في التفاهمات بين روسيا وتركيا، وانقلاب تركيا على تفاهماتها مع روسيا وإيران، بتأثير تطوّرات مُحتملة في الموقف الأميركي. إن أي تراجع أو تلكوء في عملية أستانة سوف يمثل تحدياً لروسيا، وعلى موسكو أن تبذل جهوداً كبيرة ومستمرة من أجل الاستجابة للهواجس المتزايدة لدى سوريا، واستمرار العمل بالاتفاقات ومراقبة تنفيذها، واحتواء التوتّرات بين فواعلها، وخاصة بين إيران وتركيا ومراقبة مدى التزام تركيا بتعهداتها، والعمل على احتواء "داعش" و"جبهة النصرة" والحيلولة دون حصول اختراق كبير في جبهات الحرب، والأهم هو التوصّل مع إدارة ترامب إلى تفاهمات حول التداخل بين مرجعية أستانة والقرار 2254، والتوافق على الصِيَغ الممكنة لتمثيل المعارضة في المفاوضات المزمع عقدها في جنيف أو حتى في أستانة نفسها. تدرك روسيا حجم التحدّيات أمام عملية أستانة، وأن من الصعب إدارة الأزمة السورية بشكل منفرد، ومن الواضح أنها عملت طويلاً على طمأنة مختلف الأطراف المؤثرة في الأزمة السورية، وفي مقدّمها الولايات المتحدة، التي كانت "الغائب الحاضر" في العملية المذكورة. وقد لاقت روسيا سكوتَ ترامب أو تفهّمه أو عدم معارضته لتولّيها قيادة عملية أستانة، بأن قبلت خطته لإقامة "مناطق آمنة" في سوريا "إذا قبلتها دمشق"! (تصريحات سيرغي لافروف 30 كانون الثاني /يناير). وهذا موقف أقل ما يقال عنه أنه يمثل تطوراً غير مسبوق في الموقف الروسي من الأزمة، وقد يمثل تهديداً غير مسبوق أيضاً ليس لمرجعية أستانة فحسب، وإنما لمجمل سردية روسيا في سوريا أيضاً وأيضاً؛ ما لم تكن الخطوة الروسية من باب "الاحتواء الناعم" لتطورات محتملة في السياسة الأميركية تجاه سوريا، وتجاه روسيا نفسها. تقف مرجعية أستانة بين مخافتين، الأولى هي أن تفشل العملية ما يعني تصاعد الحرب الدائرة في سوريا وعليها، والثانية هي أن تؤدّي التجاذبات حول العملية إلى أن يحصل بالسياسة ما لم يحصل بالحرب. كأن السوريين "محصورون في اللحظة ومُعَلَّقُون بين "عدمين"، بتعبير الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، ولو أنهم مع حلفائهم يصنعون المستحيل.