عن المقاومة والأمل
يمكن ويجب فهم وإدراك الأهمية القصوى للانتفاضة الفلسطينية الراهنة والضرورة الوجودية لاستمرارها وتصاعدها في اللحظة التاريخية والاقليمية والعالمية الراهنة. فلا يجب الحكم على الانتفاضة فقط بمقدار إمكانية إنجازها للتحرير أو حتى في قدرتها على إجبار العدو على التراجع أو التنازل ولو قليلاً. ولا يجب مطلقاً الحكم على الانتفاضة بقياس النتائج السياسية الآنية والملموسة التي يمكن أن تحقّقها في المدى المنظور. فهذه المقاييس هي من نتاج ثقافة أوسلو، وهي مقاييس لا تاريخية ولا منطقية ولا تمت بأية صلة لمنطق ولتجارب حركات التحرّر من الاستعمار في كل دول الجنوب.
السيّد حسن نصرالله
"تستطيعان البقاء مؤقتاً في بيتنا، فذلك شيء تحتاج تسويته إلى حرب"
غسان كنفاني "عائد إلى حيفا"
أوسلو ليست تفاقية. "أوسلو أيديولوجيا"، كتب مجد كيّال في السفير العربي، في محاولة لتوصيف الـ "المُصاب المعرفي" الذي أنتجته عملية أوسلو والذي يعادل، وربما يفوق، كما قال كيّال محقاً، في الكارثية و"الأذى" تبعات لكل من النكبة والنكسة. فأوسلو (وعدا عن تبعاتها السياسية والاقتصادية الملموسة) أسست كذلك بنية تحتية معرفية ومنظومة مفاهيمية فلسطينية جديدة شكّلت انقلاباً على كل البنى الثورية السابقة من أجل الانتقال إلى الحقبة الجديدة. هكذا، باختصار ولكن بمنهجية، تم العمل على استدخال الهزيمة وتسويق شروطها وتعميم مُفرداتها وتطبيع ثقافتها وإخضاع الفلسطينيين "لمجال جديد في المعرفة السياسية لم تكن عقلانيتنا السياسية خاضعة له" من قبل.
لكن مفاجأة أوسلو 1993، التي سقطت على الكثير من المتابعين والمعلّقين، حينها، كصاعقة في سماء صافية، واستنفذت ولا تزال كثيراً من طاقاتهم في محاولة تشخيص التبعات السياسية الكارثية للاتفاقية والعملية السياسية المسماة أوسلو، حجبت الجانب الأخطر في الهزيمة. فإذا كانت أوسلو كارثة سياسية في ظاهرها وشكلها، فهي جريمة ثقافية ذات طابع تاريخي وتبعات وجودية، في جوهرها، كما جادلت في جريدة الأخبار في قراءة أولية لهذا البعد قبل عقد تقريباً.
ربما لم تستولد أوسلو (الاتفاقية والعملية السياسية) فعلاً "المنظومة الفكرية الشاملة التي ضربت قلب الشعب الفلسطيني وأعادت تشكيل عقلانيته" السياسية، كما جادل كيّال في تقديره العميق رغم ذلك، لمعنى أوسلو، رغم أن دلالات الهزيمة الأيديولوجية ظهرت فعلاً بوضوح بعد أيلول 1993 تحديداً، بل كانت في الحقيقة نتاجاً وقابلة لأوسلو في نفس الوقت. ربما يقود التأريخ والتأصيل لأوسلو كأيديولوجيا (أو كخطاب) إلى حقبة أبعد حتى من النكبة زمنياً، وهذا ما كشف بعضه وسيكشف الكثير منه المؤرّخون الاجتماعيون والسياسيون العرب لاحقاً. لكن الأكيد وربما الثابت والموثّق كذلك، أن معالم البنية التحتية لأوسلو، وكل ما تتضمنه من منظومات سياسية وثقافية واقتصادية مضادة، لم تبدأ حقاً في 13 أيلول 1993، بل تم التمهيد لها في انقلاب حقيقي وشامل شهدته منظمة التحرير الفلسطينية في حزيران 1974 في دورة المجلس الوطني الثانية عشر، والذي كان بدوره نتيجة لكارثة هزيمة حزيران التي استولدت تدريجياً منظومة أوسلو.
بهذا المعنى (وبهذا المعنى فقط)، ومن هذه الخلفية (ومن هذه الخلفية فقط) يمكن، ويجب فهم وإدراك الأهمية القصوى للانتفاضة الفلسطينية الراهنة والضرورة الوجودية لاستمرارها وتصاعدها في اللحظة التاريخية والاقليمية والعالمية الراهنة. فلا يجب الحكم على الانتفاضة (على الأقل في شكلها وزخمها ومداها الراهن) فقط بمقدار إمكانية إنجازها للتحرير أو حتى في قدرتها على إجبار العدو على التراجع أو التنازل ولو قليلاً. ولا يجب مطلقاً الحكم على الانتفاضة بقياس النتائج السياسية الآنية والملموسة التي يمكن أن تحقّقها في المدى المنظور. فهذه المقاييس هي من نتاج ثقافة أوسلو، وهي مقاييس لا تاريخية ولا منطقية ولا تمت بأية صلة لمنطق ولتجارب حركات التحرّر من الاستعمار في كل دول الجنوب.
قيمة الانتفاضة الأهم، بعد أكثر من عشرين عاماً من استهداف الوعي العربي والفلسطيني وتشويهه، هي في قدرتها على الحفاظ على الأمل الذي يدفع الناس للاستمرار في المقاومة. فلا مقاومة ولا تضحية ولا انتصار ولا تحرير بلا أمل. أهمية الانتفاضة القصوى هي في قدرتها على حماية روح الشعب الذي كادت منظومة أوسلو أن تمسخه لدرجة القبول بالعبودية. فليس الخطر الوحيد أو الأهم حقاً، في منظومة أوسلو هو في تعميم الأوهام فقط (من طراز الركون لقرارات مجلس الأمن)، ولا في التعويل على ما لا يعوّل عليه (من نوع إدانات المجتمع الدولي). فمع التجربة يدرك الناس تدريجاً أن كل قرارات مجلس الأمن وأن كل قرارات الهيئة العامة للأمم المتحدة ومعهما كل إدانات المجتمع الدولي لم تستطع تفكيك وحدة سكنية واحدة في أية مستوطنة على مدى أكثر من خمسين عاماً. لكن الخطر الأهم ربما في ثقافة أوسلو هو في استهدافها للأمل والروح بإصرارها على عدميّة وعبثيّة الخيار المقاوم.
لهذا، قيمة الانتفاضة هذه المرة أنها تثبت للمرة الألف أنه وبعكس منطق وثقافة وعقلانية أوسلو، لم ولا ولن يوجد حل تقني لمقاومة الاستعمار، كما جادل إقبال أحمد في دراسته لتجربتيّ الجزائر وفيتنام. ولهذا فهي تفضح وتعرّي مقاييس ثقافة أوسلو التي لو اتبعتها شعوب الجنوب لكان العالم لا يزال يعيش مرحلة الاستعمار. فقضية التحرّر الوطني هي بالأساس قضية سياسية وتاريخية لا حل عسكري أو أمني أو تقني لها (حين قلّدت أميركا فرنسا في فيتنام خسرت أيضاً. كان السفير الأميركي فرانك ويزنر، يعمل كمندوب لوزارة الخارجية الأميركية في الجزائر في نهاية الحرب مع فرنسا وشاهد الأداء الفرنسي الفاشل عن قرب. لكنه حين انتقل إلى فيتنام لاحقاً استخدم نفس الأسلوب الفرنسي الفاشل في الجزائر ظناً منه أن زجّ المزيد من القوات واستخدام المزيد من العنف سيقود إلى الانتصار).
ولهذا أيضاً كان فرانز فانون محقاً بتوصيفه رؤية فردريك إنجلز في "ضد دوهرنج" عن حتمية "انتصار المسدس على السيف" بالصبيانية ("روبنسون كروزو" حاملاً سيفه يتفاجأ بـ "فرايداي" يحمل مسدساً). فهذا التوصيف، كما جادل فانون، لا يأخذ بعين الاعتبار السياق التاريخي لحروب التحرّر الوطني وطبيعة الحروب غير المتكافئة، برغم تفاوت التطوّر والحداثة. فلا تفسّر هذه الرؤية السطحية التي تفترض حتمية انتصار الأكثر حداثة والأكثر تطوّراً اقتصادياً (أو اعتبارها أن موازين القوى انعكاس فقط لمستوى التطوّر الاقتصادي) كما يقول فانون في "معذبو الأرض"، انتصار الثورة الأميركية المسلّحة ضدّ بريطانيا العظمى حينها ولا تراجع الجيش الفرنسي النابليوني الأكثر تطوّراً حينها في إسبانيا نتيجة حرب العصابات التي شنّها الإسبان.
كل الصراعات وكل الحروب تستهدف في جانب أساسي منها كسر إرادة العدو وسحق روحه كمقدّمة لهزيمته واستسلامه وخضوعه. الانتفاضة تقول "نحن بخير".