العرب يهجرون "الربيع"

الوزن السوري في الإقليم يغيّر معادلات كثيرة في المنطقة ولا سيما حيال الصراع العربي-الإسرائيلي وإيران وروسيا. وانقلاب سوريا سيؤثّر في هذه التوازنات الثلاثة. فالقضية الفلسطينية ستفقد الكثير مما تبقّى لها من بريق في الوجدان العربي، وإيران ستفقد امتداداها إلى المتوسّط، وروسيا ستُحرم من المياه الدافئة. وقصارى القول إن التحوّلات الميدانية في العامين الأخيرين والتيقّن من أن المعارضة عاجزة عن الحسم العسكري، كانا السبب الأساسي في حمل الكثيرين على إحداث تحوّلات في المواقف من دمشق وإجراء مراجعات لسياسات لم تقد سوريا إلا إلى الدمار.

الصراع في سوريا بلغ ذروته وطالت الحرب والقوى المسلحة هي الأكثر استفادة من الفوضى التي أُقحمت فيها سوريا
تدرّجت التحوّلات التي عصفت ببعض المواقف الاقليمية والدولية حيال الحرب السورية على امتداد الأعوام الستة الماضية، من العداء الجذري لدمشق إلى محاولة التعاطي بواقعيّة سياسية تضمّنت تخلياً عن الكثير من الشعارات والمطالب التي أطلقت عند الاندلاعات الأولى للأزمة في آذار/ مارس 2011.

عامذاك استسهل الكثيرون مدفوعين بزخم ما سُمّي "الربيع العربي" إحداث تغيير جيوسياسي في سوريا حتى ولو بالقوة، من منطلق الاقتناع أن ما بدأ في تونس ومصر وليبيا واليمن لن يكتمل إلا إذا أنقلبت سوريا.  

فالوزن السوري في الإقليم يغيّر معادلات كثيرة في المنطقة ولا سيما حيال الصراع العربي-الإسرائيلي وإيران وروسيا. وانقلاب سوريا سيؤثّر في هذه التوازنات الثلاثة. فالقضية الفلسطينية ستفقد الكثير مما تبقّى لها من بريق في الوجدان العربي، وإيران ستفقد امتداداها إلى المتوسّط، وروسيا ستُحرم من المياه الدافئة.

وهكذا بلغ الصراع على سوريا ذروته وطالت الحرب وبدا أن القوى "الجهادية" هي الأكثر استفادة من الفوضى التي أُقحمت فيها سوريا. والجهاديون الذين كانت توظّفهم دول اقليمية بدأوا يهدّدون الغرب بعدما نقلوا المعركة إلى أوروبا. وهذا الواقع الكارثي المُتمادي جعل دولاً عربية اكتوت بنار الإسلام السياسي ولا سيما مصر والجزائر تتّخذ مواقف أكثر عقلانية، إذ لم تعد تنظر إلى ما يجري في سوريا على أنه "ثورة" تسعى إلى إصلاحات سياسية وإنما هي حرب تقودها جماعات جهادية تُنذر بتفجير أكبر إذا ما سقطت دمشق أمام "داعش" و"النصرة".  

وإذا كانت الجزائر أبدت منذ بداية الأزمة، تحفّظات كثيرة على سياسات دول عربية أخرى ولا سيما منها دول الخليج التي وقفت وراء الفصائل المسلّحة الساعية إلى الحسم العسكري مع النظام على الطريقة الليبية، فإن التحوّل في الموقف المصري بدأ مع إطاحة "الأخوان المسلمين" من السلطة عام 2013 وصولاً إلى انتخاب عبد الفتاح السيسي رئيساً. واتّسم موقف السيسي بالكثير من الجُرأة في ما يتعلّق بالأزمة السورية بما يتناقض مع مواقف دول الخليج العربية ولا سيما السعودية التي ساندت القاهرة اقتصادياً منذ إطاحة حُكم "الأخوان".

وأكثر من مرة عبّر الرئيس المصري عن وقوفه مع "الجيوش الوطنية" في مواجهة الإرهاب وحذّر تكراراً من تقسيم سوريا باعتباره  سيكون الحلقة الأولى في سلسلة تقسيم المنطقة كلها على أسُس طائفية وعِرقية. وعرّض السيسي نفسه لوابل من الانتقادات الخليجية عندما صوّتت مصر أواخر العام الماضي إلى جانب مشروع قرار روسي في مجلس الأمن يدعو إلى وقف النار في مدينة حلب قبل سيطرة الجيش السوري على شطرها الشرقي.

وقبل أيام اتّخذ وزير الخارجية المصري سامح شكري موقفاً متقدّماً من الأزمة السورية بإعلانه أن سوريا ستعود عاجلاً أم آجلاً إلى مقعدها في الجامعة العربية وأن "كل الدول ابتعدت عن الحل العسكري". والتقارب المصري-السوري الذي ترافق أحياناً كثيرة مع تقارير عن تبادُل زيارات لمسؤولين رفيعي المستوى من الاستخبارات ومع أنباء عن وجود قوات مصرية في سوريا إلى جانب الجيش السوري، كانت توازيه مواكبة مصرية لجهود الحل السياسي لا سيما تلك التي ترعاها روسيا. وتعتبر "منصّة القاهرة" في المعارضة السورية من أكثر أطراف المعارضة نبذاً للعنف وسيلة للتغيير السياسي.    

وفي خضمّ التحوّلات العربية حيال سوريا، شكّلت زيارة وزير الخارجية السوري وليد المعلّم العام الماضي إلى كل من سلطنة عُمان والجزائر، علامة فارقة على طريق إعادة التطبيع بين دمشق وعواصم عربية. وخطت تونس في ظلّ حُكم الرئيس الباجي قايد السبسي خطوات مهمة على طريق التطبيع وإعادة وصل ما انقطع مع دمشق في ظلّ حُكم حزب النهضة الإسلامي للبلاد. وكان لافتاً إعلان وزير الداخلية التونسي هادي المحجوب في كانون الثاني الماضي تحت قبّة البرلمان عن وجود مكتب تنسيق أمني تونسي في العاصمة السورية على رغم أن العلاقات الدبلوماسية مقطوعة بين البلدين منذ عام 2012. ومعلوم أن تونس صدّرت في ظلّ حُكم النهضة آلاف الجهاديين إلى سوريا. وها هي اليوم تواجه أزمة حيال الطريقة التي يجب أن تتعاطى فيها مع الجهاديين العائدين من سوريا نظراً لما يمكن أن يشكّله هؤلاء من خطورة أمنية على الساحة التونسية.  

في ظلّ هذا المناخ من انفتاح دول عربية أساسية على دمشق، بات الأردن في الآونة الأخيرة أكثر حذراً في تقديم الدعم العسكري لمجموعات المعارضة المُسلّحة، لا سيما وأن الجهاديين بدأوا ينقلبون ضدّ الداخل الأردني. لكن الضغط الخليجي والأميركي يحول حتى الآن دون اتّخاذ الأردن قراراً بإعادة التطبيع مع سوريا. وستشكّل القمة العربية التي تنعقد بعد أيام في عمان اختباراً للتوجّه الأردني حيال الأزمة السورية وذلك من خلال طريقة التعاطي مع المعارضة السورية التي كانت تُدعى في قمم سابقة إلى إلقاء كلمة أمام القمّة.

والسؤال إلى أي مدى يمكن التجاوب في القمّة المقبلة مع دعوة وزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري قبل أيام أمام مجلس الجامعة العربية في القاهرة، إلى إعادة سوريا إلى الجامعة؟.  

وباستثناء قطر التي لا تزال تلتزم موقفاً جذرياً من النظام في سوريا، فإن مشاركة فصائل سوريّة مدعومة من السعودية سواء في لقاءات أستانة أو في محادثات جنيف يشي برغبة سعودية في الانخراط في جهود الحل السياسي في سوريا لا سيما مع المعادلات العسكرية التي رسا عليها الميدان السوري بعد استعادة الجيش السوري لحلب كاملة وتوسيع طوق الآمان حول دمشق من طريق المصالحات.     

وقصارى القول إن التحوّلات الميدانية في العامين الأخيرين والتيقّن من أن المعارضة عاجزة عن الحسم العسكري، كانا السبب الأساسي في حمل الكثيرين على إحداث تحوّلات في المواقف من دمشق وإجراء مراجعات لسياسات لم تقد سوريا إلا إلى الدمار.