في الأزمة السورية وضوء آخر النفق

انفجار الشعبويات اليمينية المتطرفة في أميركا وأوروبا، يشير إلى الفاشيات العنصرية تدق أبواب الحكم في "هذه الديموقراطيات العريقة"، كما دقت أبواب إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية عبر الانتخابات وصناديق الإقتراع. وربما يصعب على مؤسسات الدول الكبرى والهيئات الدولية أن تبلع بحصة الاستبداد أمام هذا التهديد الجديد في أميركا وأوروبا. لكن هذه المعضلة قد تكشف أن المصائب التي ارتمت بها بلدان منطقتنا، إذا لم تقضِ عليها فهي تحصّن مناعتها وتقويّها.

في آخر نفق الأزمة يطل بصيص الضوء
قد يكون المفوّض السامي لحقوق الإنسان زيد بن رعد مصيباً في قوله "لا شيء يبرر هذه المذبحة". وقد يكون أكثر صواباً في إشارته إلى أن "المأساة في سوريا لم يحدث لها شبيه منذ الحرب العالمية". فالفظاعات الهمجية في سوريا، طغت أخبارها في سنوات ست عجاف على ما عداها. ولعل بعض الأهوال التي تعرّض لها أطفال سوريا وأمهاتهم تجاوزت مذابح الحرب العالمية الثانية دموية وتدميراً. 
ومن غريب الحنان والعواطف، أن يفيض مسؤولو الدول والهيئات الدولية بوصف المآسي والكوارث. والأغرب أن بعض الفيض يفوح منه تلميح بمنح السوريين جائزة الفوز بالمركز الأول بين باقي الحروب. ولعل افتعال التأثر بكبريات الأحداث الجسام في سوريا، يدلّ على تطبّع مسؤولي الدول الكبرى والهيئات الدولية مع "مألوف" القتل والدمار "الأقل أهمية". ولا غرو أن التبلّد أمام جحيم الموت في اليمن وليبيا والعراق والصومال والبحرين والسودان، هو أخ التبلّد أمام المأساة الكبرى في سوريا، لكنه أقل دموع رياء. ولو كان قتل امرء كأنه قتل للناس أجمعين، كما تدّعي هيئات حقوق الإنسان والدول الكبرى، لما تبلّد أحد ولما بات مألوف الذبح مألوفاً. 
في عالم اليوم حوالي مائة حرب دموية شبه منسية، لاعتبارها مذابح"مألوفة" وفق قول "مَن ينظر إلى مصائب غيره الكبرى تهون عليه مصيبته". وهي كلها "لا شيء يبررها" بحسب تعبير المفوّض السامي. وقد يكون التفسير الأقرب لانفجار هذه الحروب وتعميمها، هو شراسة الدول الكبرى لاستحواذ النفط والغاز والأراضي الزراعية والموارد الطبيعية. فقبل هذه الشراسة المتمادية يوماً بعد يوم، كانت كل مناطق هذه الحروب متوافقة بعُجرها ومُجرها على الاستمرارية المشتركة. وقد حافظت هذه الاستمرارية على تعايش أعداد لا تُحصى من الأعراق والإثنيات والطوائف إلى يومنا هذا، على الرغم من الحروب الدائمة فيما بينها من دون أن تؤدي هذه الحروب إلى إبادة كإبادة الهنود الحمر وإبادة إثنيات أوروبا الغربية. 
الأدهى أن الدول الكبرى أنشأت كل هذه الهيئات والمؤسسات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، بزعم أنها تعلّمت من دروس مذابح الحرب لكي تمنع مثلها في أصقاع الأرض. وعلى هذا الزعم ولد مجلس الأمن والأمم المتحدة ومجالسها وهيئاتها التي تملأ الأرض ضجيجاً عن تضحياتها لوقف الحروب وما تسميه حل النزاعات. واللافت أن معظم هذه الهيئات والمؤسسات، تجتهد بكل ما أوتيت من مال ونفوذ لتفسير تعميم المآسي بمقولة آحادية هي استبداد الحكم المحلي. وأن مجرّد تغيير هذا الحكم بحكم آخر، لا يوقف الحروب والاحتراب فحسب بل يؤدي إلى جنة عدن. والدليل على هذا الادعاء المبتور هو استقرار الدول الغربية في حرية التعبير لاختيار الحكم الأصلح. 
لكن انفجار الشعبويات اليمينية المتطرفة في أميركا وأوروبا، يشير إلى الفاشيات العنصرية تدق أبواب الحكم في "هذه الديموقراطيات العريقة"، كما دقت أبواب إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية عبر الانتخابات وصناديق الإقتراع. وربما يصعب على مؤسسات الدول الكبرى والهيئات الدولية أن تبلع بحصة الاستبداد أمام هذا التهديد الجديد في أميركا وأوروبا. لكن هذه المعضلة قد تكشف أن المصائب التي ارتمت بها بلدان منطقتنا، إذا لم تقضِ عليها فهي تحصّن مناعتها وتقويّها. 
النوازل النازلة على سوريا لم تقضِ عليها. وفي آخر نفق الأزمة يطل بصيص الضوء الذي تدلّ عليه أزمة الخيارات التركية. فالرئيس التركي يحاول قدر المستطاع شراء الوقت للامساك بخيوط النفوذ وكل السلطات التركية الداخلية. لكن حين يحين الحين وعلى مفترق الخيارات، إما أن يذهب مع موسكو وطهران نحو الحل السياسي أو يذهب مع واشنطن إلى مجهول له ارتدادات عميقة في الداخل التركي. وربما على خلاف موسكو وطهران تنتظرالدول الغربية أن يجر أردوغان تركيا إلى أزمة خانقة على مقولة "مصائب قوم عند قوم فوائد".