بين هزيمة 1967 ونموّ المقاومة العربية
إسرائيل لم تعد أيضاً تلك التي كانت. صحيح أن استيطانها قد تجذّر وتضاعف عبر السنوات، وهي لم تعد تكتفي بالمفاوضات الثنائية المباشرة، لكنها في ذات الوقت تشرذمت سياسياً، وظهرت فيها تيارات سياسية متنوّعة مُتنافسة إسقاطياً على نمط التنافس الإسقاطي العربي. نحن العرب هزمنا عسكرياً عام 1967، لكن إرادتنا لم تُهزم، أما الآن فنحن مُحبَطون ومهزومون نفسياً ومعنوياً. لقد ضعف لدينا الانتماء والولاء والالتزام، وتراجعت الهموم القومية لصالح الهموم الانفرادية. انقضّ العربي على العربي يسفك دمه ويهتك عرضه ويهدم بيته، وأصبحنا أضحوكة بين الأمم. وإذا كان من بيننا متفائلون فإنهم الذين يتمسّكون بحبل المقاومة وأملهم كبير.
حقّقت إسرائيل انتصاراً عسكرياً ذلك العام بالتعاون مع بريطانيا وفرنسا، لكنه لم يكن مقنعاً للعرب بخاصة أن مصر انتصرت سياسياً وأنجزت تأميم القناة، ومن ثم انسحاب الجيوش من الأراضي المصرية. كانت حرب عام 1967 الفرصة القوية أمام إسرائيل لجلب العرب إلى طاولة المفاوضات المباشرة. لكن ذلك لم يتأتَ بسبب إصرار جمال عبد الناصر على إعادة بناء القوات المسلّحة و"إزالة آثار العدوان".
وقف العرب مع الدول العربية المهزومة إلى حدّ ما وموّلوا جزئياً إعادة بناء الجيوش, وقد قرر العرب عقب الحرب في مؤتمر القمّة المنعقد في الخرطوم الثلاث لاءات وهي: "لا صلح" و "لا اعتراف" و "لا مفاوضات مع إسرائيل". وبقي الموقف العربي عبر سنوات طويلة مصمّماً على البحث عن حل عربي جماعي مع إسرائيل مع المحافظة على الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني.
أما إسرائيل فقالت للعرب إنه لا حلّ إلا من خلال المفاوضات الثنائية المباشرة معها. ورفض العرب هذا الطلب الإسرائيلي حتى عام 1991 عندما قرّروا الذهاب إلى مؤتمر مدريد فُرادى. لقد حقّقت إسرائيل مطلبها في مدريد، وأمست على قناعة بأن مسلسل التنازلات العربية قد بدأ، وأن عليها التمسّك بالإصرار على ما هو ممكن انتزاعه من العرب.
منذ عام 1967 والعرب يصرّون على أن الاحتلال غير شرعي ومخالف للقوانين الدولية، لكنهم يستمرّون في البحث عن حلّ عند الذين يقدّمون مختلف أنواع الدعم للاحتلال وعلى رأسهم الولايات المتحدة. وانقلبت اللاءات في مدريد إلى "نعمات" وأخذ حكّام العرب يتهافتون على نيل رضا إسرائيل، ووصل الأمر إلى مبادرة بيروت العربية التي توّجت العفن والتساقط العربي.
لكن الملاحظ أن حرب عام 1973 قد توسّطت هزيمة 67 ومؤتمر مدريد. أي أن العرب ذهبوا إلى طاولة المفاوضات بعدما حقّقوا إنجازاً عسكرياً لم يرتق إلى انتصار ضدّ الجيش الإسرائيلي. أي أن نظرية بن غوريون في جلب العرب إلى الاعتراف والتفاوض من خلال الهزيمة لم تكن صحيحة. يبدو أن العرب كانوا بحاجة لتحقيق إنجاز عسكري ليتمكّنوا من تبرير تفاوضهم مع إسرائيل وطنياً. وهذا أمر تناقله العديد من الكتّاب والمؤلّفين وشاركهم فيه إلى حد ما سعد الدين الشاذلي رئيس أركان الجيش المصري، إبان حرب تشرين من حيث أن أميركا والسادات قد نسّقا معاً لإحداث زلزال عسكري من أجل دفع إسرائيل نحو التفاوض وتقديم بعض التنازل للعرب. أي أن حرب تشرين كانت على الأقل من الجانب المصري كانت تحريكية وموجّهة سياسياً ولم تكن بهدف إزالة آثار عدوان حزيران/ 67.
لم يكن العرب متآلفين متحابين جيّداً قبل مدريد، وطالما عصفت الخلافات بعلاقاتهم الداخلية، لكن مؤتمر مدريد مزّقهم بالمزيد. كان المؤتمر صاعِقاً بالنسبة لبلاد الشام إذ اعترف الأردنيون والسوريون واللبنانيون والفلسطينيون بصورة غير مباشرة ب سايكس بيكو، ورضخوا للأمر الواقع بأن بلاد الشام ليست كلاً متكاملاً وإنما مجرّد أجزاء مُتناثرة. أما مصر فأخذت تمنّ على العرب بأنها كانت الرائدة في قراءة الخرائط السياسية والتوجّهات الدولية، وكانت السبّاقة في معرفة المواقف العربية الحقيقية من الكيان الصهيوني. ولم تتوان السعودية أيضاً عن الإشادة بحكمة قياداتها التي كانت ترى أن لا حلّ مع الصهاينة إلا عن طريق السياسة والدبلوماسية، والتوجّه نحو الولايات المتحدة عساها تضغط على إسرائيل فتنسحب من الأرض المحتلة عام67.
فبدل أن يشكّل العرب فريقاً دبلوماسياً واحداً أو ينسّقوا أعمالهم الدبلوماسية طغى التفرّد والتبجّح الاستسلامي على المقاربات الدبلوماسية العربية. الموقف الفلسطيني لم يكن أحسن حالاً. لم يكن الفلسطينيون موحّدين قبل مدريد، وجاء مدريد لتعميق الانقسامات الداخلية الفلسطينية والنيل من مكانة القضية الفلسطينية عربياً ودولياً. عانى القرار الفلسطيني من التفرّد، وتمّ انتهاك كل المحرّمات الفلسطينية وعلى رأسها مسألة الاعتراف بالكيان الصهيوني والتطاول على الميثاق الوطني الفلسطيني من قِبَل منظمة التحرير الفلسطينية.
دبّت الفوضى في الساحة السياسية العربية، وضعف الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وأخذ الهمّ القومي العربي يتراجع بالمزيد لحساب الهموم الخاصة لكل دولة عربية على حدة. انحسرت روح التحدّي، ولم تعد القضية الفلسطينية ذات مركزية عالية في المقاربات السياسية العربية. وتطوّرت أوضاع العرب سوءاً إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن من تمزّق وتفتيت وحروب عبثية مدمّرة في عدد من البلدان العربية، ومن ارتفاع في مناسيب الإرهاب والتخريب.
إسرائيل لم تعد أيضاً تلك التي كانت. صحيح أن استيطانها قد تجذّر وتضاعف عبر السنوات، وهي لم تعد تكتفي بالمفاوضات الثنائية المباشرة، لكنها في ذات الوقت تشرذمت سياسياً، وظهرت فيها تيارات سياسية متنوّعة مُتنافسة إسقاطياً على نمط التنافس الإسقاطي العربي. وانتشر الفساد في إسرائيل ليشمل كل ركن وزاوية، وضعفت جبهتها الداخلية، وتدهورت معنويات جيشها. لم تعد إسرائيل تلك التي كانت، ولم يعد جيشها ذلك الذي كان.
التطوّرات الداخلية في إسرائيل لم تكن بفعل الجيوش العربية، وإنما بسبب تطوّر المقاومة العربية في لبنان وفلسطين، والذي حصل رغم أنف الحكّام العرب. حزب الله هزم إسرائيل وطردها من جنوب لبنان عام 2000. لقد خرجت ذليلة بعدما كانت تتغطرس وتتوعّد، وهرب جيشها فارّاً من الجنوب اللبناني خوفاً من ضربات المقاومة. وتكرّر المشهد المُهين للجيش الإسرائيلي عام 2006 في الجنوب اللبناني، وفي غزّة أعوام 2008/2009، 2012، و 2014.
هناك دمار كبير في الساحة العربية ولا توجد دولة عربية واحدة الآن تتحدّى إسرائيل، لكن إسرائيل أقلّ أمناً، ونظريّتها الأمنية التقليدية انهارت إلى حد كبير. هي ما زالت تتغطرس في الضفة الغربية والجولان، لكنها لم تعد تجرؤ على الغطرسة في جنوب لبنان، وباتت تحسب حساباً للقتال الذي يمكن أن يدور في شمال فلسطين المحتلة. أي أن تقع بعض مستوطناتها بيد حزب الله فتضطر لتقديم تنازلات كبيرة وحقيقية للجانب العربي. الوضع الداخلي العربي مُحبَط للغاية، أما وضع المقاومة فيبشّر بالخير، ووضع الكيان الصهيوني يعاني من تراجعات مهمة.
نحن العرب هزمنا عسكرياً عام 1967، لكن إرادتنا لم تُهزم، أما الآن فنحن مُحبَطون ومهزومون نفسياً ومعنوياً. لقد ضعف لدينا الانتماء والولاء والالتزام، وتراجعت الهموم القومية لصالح الهموم الانفرادية. انقضّ العربي على العربي يسفك دمه ويهتك عرضه ويهدم بيته، وأصبحنا أضحوكة بين الأمم. وإذا كان من بيننا متفائلون فإنهم الذين يتمسّكون بحبل المقاومة وأملهم كبير.