بأي عين يرى الكاتب النصوح "زمن حزب الله"؟
يحترم الكاتب النصوح حزب الله بالمقارنة مع تجاربه الحزبية والسياسية القديمة والجديدة. فهو لا يستطيع أن يتغافل عما يفقأ العين في سلوكيات وأخلاقيات الحزب وأهدافه. ويعترف بأن السيد حسن نصر الله "الوجه الوحيد غير التافه في صحراء السياسة اللبنانية بنى موقعه بالعمل والجد والسهر" كما عبّر في مقالته. لكن ما ينكأه ربما هو أن مقاومة الحزب تخلخل معتقداته التبسيطية التي أدّت به إلى أن يتقلّب باستمرار من خندق إلى خندق.
النصوح الذي يحتل صدارة المؤثرين في جريدة سعودية مرموقة، ساهم إلى حدّ غير قليل بترويج ثقافة سياسية ضد المقاومة والمجتمعات العربية "المتخلفة"، انبهاراً بالمنظومة الغربية ومعظم سياساتها في المنطقة. فدأب دأبه منذ أن اهتدى قبل ردح من الزمن إلى التخلي عن القضايا المقدسة كما يقول، على السخط تشاوفاً. هو أحد شيوخ ربعه في دبلجة الثقافة الغربية المعادية للتحرر، فتضفي عليها صياغته الاحترافية هالة من التنميق تغطي خواء المضمون أشبه ببخور العرافة في طقوس السحر. في هذا السياق يكتب تحت عنوان "زمن حزب الله؟" مستهولاً ما وصفه بالتحوّل الكبير الذي حققه حزب الله في معركة عرسال ضد "النصرة". يرى أننا نعيش الحقيقة الخطيرة التي هي "اندماج البندقية بالتأييد الشعبي العابر للطوائف"، في الإشارة إلى التفاف الرأي العام حول المقاومة. ومن وقائع هذا الحدث الذي يشكّل قمة الطموح للتعبير عن الوحدة الوطنية، يستنتج الكاتب عكس الاستنتاج المنطقي رأساً على عقب، فيقول إن الالتفاف يدل على "الانحطاط في الوطنية اللبنانية" ويقصف المؤيدين لهذا التحوّل بتهمة "أخلاق العبيد" بحسب تعبيره. فأحكامه المسبقة التي يؤمن بها كحقيقة مطلقة، تحجب عنه رؤية أسباب الالتفاف الشعبي العابر للطوائف، معتقداً أن العابرين يؤيدون حزباً يقتلهم ويقتل إخواناً لهم. فيدّعي المعرفة بالحقيقة أكثر من خبرة وتجربة العابرين للطوائف بشأن مَن يقتل ومَن يقاتل الذين يقتلون. في قرارة نفسه، يحترم الكاتب النصوح حزب الله بالمقارنة مع تجاربه الحزبية والسياسية القديمة والجديدة. فهو لا يستطيع أن يتغافل عما يفقأ العين في سلوكيات وأخلاقيات الحزب وأهدافه. ويعترف بأن السيد حسن نصر الله "الوجه الوحيد غير التافه في صحراء السياسة اللبنانية بنى موقعه بالعمل والجد والسهر" كما عبّر في مقالته. لكن ما ينكأه ربما هو أن مقاومة الحزب كما أوضحها نصر الله للمرة الأخيرة في سهل الدردارة ــ الخيام، تخلخل معتقداته التبسيطية التي أدّت به إلى أن يتقلّب باستمرار من خندق إلى خندق. فقد بنى صرحه على فكرة واحدة ملخصها أن التخلي عن المقاومة والعسكرة والجيش وعن النضال ضد الاستعمار وعن مواجهة اسرائيل... إلخ يقلب حال البلاد والعباد من حال الاستبداد والفقر والتخلف إلى حال النعيم الديمقراطي. وقد يكون من المستبعد العثور له على معالجة غير تبسيطية لهذه الفكرة. بل هو يدافع عنها بزيادة الشيء من الشيء نفسه في التهجم على المقاومة والنضال ورفض التبعية. ولا يلتفت من قريب أو بعيد إلى أن حركات المقاومة والنضال هي أقلية قليلة منذ زمن بعيد في المنطقة. وأن الأغلبية الساحقة من الدول والطبقة السياسية والنخب العربية قد سبقت الكاتب النصوح بنصائح التبعية والخضوع وفي السلام مع اسرائيل. ولا يبدو أنها تحقق شيئاً مما يعوّل عليه الانفتاحيون والمهادنون، ولا نظن أن موهبة الكاتب النصوح تعينه على التغنّي بإنجازات هذه الأغلبية في مقارعة الذين يقارعهم. في دليله على عظائم الأمور في "زمن حزب الله"، يذكر أنه "تبيّن أن مقاتلة اسرائيل تجعل التراب ذهباً والميليشيات مقاومة". وفي مقالة سابقة تحت عنوان "نحن العملاء الخونة" يقول "مع احترامنا لكل الانتصارات الكبرى التي حققها حزب الله وأنهت زمن الهزائم، لا نزال شعوباً مهزومة". كأني به يحاول الإيحاء بأن هذه الانتصارات هي التي تجعل شعوبنا مهزومة منقسمة على نفسها. وفي مقالة لاحقة تحت عنوان "تاريخ للصدف المبعثرَة" يقول "موقع حزب الله يشبه موقع انقلاب يوليو. لهذا لم يخطئ الذين شبهوا حسن نصر الله بعبد الناصر. إنهما يستطيعان إنزال الأذى على أوسع نطاق ممكن. إنه أذى مركزي تيمناً بـ"القضية المركزية" (فلسطين). يعتقد أن الأذى المركزي هو الإيمان بقضايا مقدّسة، "لأن القضية المقدسة تجيز الهرطقة والتجديف" بينما يعزز عدم الإيمان بقضايا مقدّسة الشك وإعادة التفكير والبحث عن وقائع وأفكار بحسب زعمه. لكن الكاتب النصوح لطالما يزداد يقيناً بمقولته الآحادية التبسيطية ولا يضعها موضع الشك منذ دهر ولا موضع التمحيص والدراسة. فهو يصف قادة الحركات السياسية التي ينافح عن هواها السياسي بأنهم "قادة حركات صبيانية". لكن هؤلاء القادة قد لا يكونون أكثر صبيانية من معظم كتابهم ومثقفيهم.