مُلاحظات عند أعتاب النصر في حلب

منذ خمس سنوات والإعلام المُعادي للدولة السورية يُقدّم مسألة حلب باعتبارها "خنجراً" في خاصِرة النظام. في غضون خمسة أشهر، استحال هذا الخنجر سيفاً مُسلطًاً على مشاريع الفوضى في سوريا.

لا يزال التعليق الرسمي الإسرائيلي على ما حدث في حلب هو الأشدّ غياباّ في محور المُتضرّرين
يتداول نُشطاء طُرفةً على شبكات التواصل مفادها أنّ الجماعات المُسلّحة "نجحت أخيراً في التوحّد داخل الباصات الخضراء في حلب". تتهاوى المشاريع الاقليمية والدولية في حلب ومعها "أساطير" حبَكتها آلات الضخّ الإعلامي طوال سنوات ست في وجه الجيش السوري وحلفائه: من حجم الخسائر إلى الانتهاكات المزعومة فمحاولات الإيقاع بين الحلفاء.والحق يُقال أن الجماعات المُسلّحة وحلفاءها كانوا أكثر حضوراً إعلامياً عالمياً، حتى باتت خسائرهم اليومية بديهيّات يُقفز من فوقها من دون التوقّف عند دلالاتها.

أطلقت الفصائل طلقتها الأخيرة قبل أسابيع بإعلان تشكيل "جيش حلب". لم تكن هذه الخطوة سوى محاولةٍ إعلامية بحسب اعتراف المُسلّحين أنفسهم. قال "أبو عبد الملك" القاضي الشرعي في "جيش الفتح" آنذاك إنّ "جيش حلب هو جيش إعلامي فقط، لا ترجمة له على أرض الواقع أبداً، وقد أعلنته بعض الأطراف لترقّع سوأة تخاذلها وخيانتها ولتتاجر وتفاوض على مجاهدي حلب".

في العامين الأخيرين تُخفي الجماعات المُسلّحة خسائرها البشرية ضمن عناوين إعلامية برّاقة. كل أحاديث الاندماج والتوحّد هدفها في الحقيقة إخفاء النقص العدَدي الذي بات واقعاً نتيجة ما يُحقّقه الجيش السوري وحلفاؤه في صفوفهم. في معركة الكليات الأخيرة في حلب، سقط أكثر من 1100 مسلّح. وما بين الكليات والـ"1070 شقة" خسر المُسلّحون 180 قائداً ميدانياً. ليست هذه الأرقام استثنائية في الحرب السورية.

في بلدة "القُصير" في ريف حمص في العام 2013، ناهزت خسائر المُسلّحين الثلاثة آلاف. هكذا أرقام تحكي الكثير عن الأداء العسكري للأطراف المُتحارِبة، ولكن الأهم أنها باتت ترسم الواقع الجيو استراتيجي الجديد لسوريا ما بعد معركة حلب. ولأن الحديث عن تبعات هزيمة المُسلّحين ستتكشّف تباعاً من زاوية دمشق وحلفائها، دعونا نُقارب خسائر المحور الآخر.

- أولاً، أوجدت نتيجة معركة حلب شرخاً لن يكون سهلاً ردمه بين تركيا والسعودية وقطر والجماعات المُسلّحة. وحتى مع استمرار الدعم المالي والعسكري لهذه الجماعات، فإنّ الغالب على أدبيّات المُسلّحين في الأشهر الخمسة الأخيرة هو التشكيك بمواقف الدول الراعية إلى حدّ الحديث عن صفقات دولية لم تتبلور أساساً سوى في مُخيّلتهم.

- ثانياً، على الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان تقديم تفسيرات في الداخل التركي لكل المواقف الحادّة التي أطلقها بشأن حلب منذ سنوات. سيجد أردوغان نفسه مُطالباً أيضاً بفصل ارتدادات التفجيرات والهجمات داخل حدود بلاده عن الأصوات التي ستستنتج بأن هذه التفجيرات هي نتيجة سياسته في سوريا، رغماً عن "درع الفرات".

- ثالثًاً، مع توقّع استمرار السعودية وقطر بدعمهما للفصائل المُسلّحة فإن معركة حلب تُشكّل ضربة قاسية لرهاناتهما. ولن يكون خيار فتح جبهة أخرى بثقل ما خسراه في حلب. ومع استلام دونالد ترامب مقاليد السلطة رسمياً، ستجد الرياض والدوحة نفسيهما مشغولتين باحتواء وجهات نظر ترامب في المرحلة الأولى من حكمه بدل التركيز على مواصلة السير برؤيتيهما إزاء سوريا.

- رابعاً، لم تنجح معركة حلب في توحيد الفصائل في ذروة مأزقها. الإعلان عن "جيش حلب" جاء في وقت مُتأخّر ولم يُسفِر عن أيّ تبدّلٍ ميداني في موازين القوى. ومع استمرار الخلافات بين الجماعات المُسلّحة في ما بينها حتى في خِضمّ معاركها ضدّ الجيش السوري، يصعب توقّع اندماجها أو اتفاقها في جبهات أخرى، بل تفيد الأنباء من أوساط المُسلّحين في مناطق كـ"إدلب" والجنوب إلى توجّه لانشقاقات إضافية قريباً.

- خامساً، سقط بشكلٍ نهائي الجدَل حول قدرة الفصائل على إقامة حُكم بديل للنظام. لم تستطع هذه الجماعات طوال سنوات سيطرتها على حلب في إقناع البيئة المحليّة باحتضان مشروعها. وكانت لافتة مُسارعة المدنيين إلى الإبلاغ عن المُّسلّحين والتعاون مع القوات النظامية خلال المعارك وقبلها، في حين واكبت أجهزة الدولة السورية تأمين الخدمات بأسرع وجه ممكن في الأحياء والمناطق المُحرّرة.

- سادساً، على الإدارة الأميركية الجديدة التفاوض مع روسيا انطلاقاً من المُستجدّات الراهنة والتغيّر في موازين القوى على الأرض. ومع لِحاظ تركيز ترامب في مواقفه حتى الساعة باتّجاه داعش، فإن أيّة تسوية دولية مُقبلة حول سوريا لن تكون تحت سقف ما كان ينادي به النظام وحلفاؤه في الجولات التفاوضية السابقة كلها.

- سابعاً، لا يزال التعليق الرسمي الإسرائيلي على ما حدث في حلب هو الأشدّ غياباّ في محور المُتضرّرين. لكن هذا الصمت هو نفسه مؤشّر على انهماك تل أبيب في دراسة ما بعد حلب وخياراتها المُتاحة. لم تؤدِ كل التدخّلات الإسرائيلية السافِرة في المعارك السابقة (لا نتحدّث هنا عن الغارات الجويّة) إلى تغييرٍ دراماتيكي على مستوى الصِراع ككل. وقفُ انتصارات الجيش السوري وحلفائه بات يحتاج إلى خيارات مختلفة لا يبدو في الأفق أن من مصلحة إسرائيل السير بها.

 

منذ خمس سنوات والإعلام المُعادي للدولة السورية يُقدّم مسألة حلب باعتبارها "خنجراً" في خاصِرة النظام. في غضون خمسة أشهر، استحال هذا الخنجر سيفاً مُسلطًاً على مشاريع الفوضى في سوريا.