على المستوى الخارجي اختار هولاند العمل باستراتيجيتين تجلت إحداهما بانفتاح واسع على الإيرانيين والروس.
بعد
ظهر 13 تشرين الأول/ نوفمبر، جلس أحد مساعدي وزير الخارجية الفرنسي لوران
فابيوس مع عدد من الصحافيين المعتمدين
في الخارجية الفرنسية، بعيداً من الكاميرا وآلة التسجيل "briefing"، لينقل إليهم وجهة نظر الخارجية الفرنسية من مؤتمر فيينا
حول حل الأزمة السورية المقرر انعقاده في اليوم التالي. لخّص الموقف الفرنسي من
هذا الحوار على الشكل التالي: "لسنا في عجلة للتوصل إلى حل الآن، لأنه
سيتقاطع مع ما تريده موسكو على ضوء تدخلها العسكري، الروس لم يحققوا بعد الكثير من
التقدم في الميدان، وكلما طال الوقت فإنهم سيغرقون في الوحل السوري أكثر، حينها
سيفرض الغرب شروط الحل المناسب لسوريا".
بعد
ساعات من هذا الحديث، وتحديداً عند العاشرة وعشر دقائق من ذلك المساء، حصل هجوم
بالرشاشات على ساحة "الرببليك" تبعه انفجاران في ملعب "ستاد دو
فرانس" لكرة القدم أثناء وجود الرئيس الفرسي فرانسوا هولاند الذي كان يشاهد المباراة
الودية بين منتخبي فرنسا وألمانيا، وفي الوقت نفسه احتجزت مجموعة إرهابية ثالثة أكثر
من 100 رهينة في مسرح كاتاكلن، لتنتهي الهجمات الثلاث بمئة وتسعة وعشرين قتيلاً
وبضع مئات من الجرحى.
صباح
اليوم التالي، حطت طائرة فابيوس في مطار فيينا للمشاركة في اللقاء حول سوريا، وأول
تصريح له قبل بدء اللقاء الموسع شهد تغييراً خجولاً في اللهجة مقارنة مع الموقف
التقليدي لأكثر المتشددين الفرنسيين حيال النظام السوري والرئيس بشار الأسد.
قال
فابيوس: "على الجميع أن يتحد لمواجهة ارهاب داعش". تصريح عُدّ الأول من
نوعه الذي يدلي به منذ العام 2012، تاريخ دخوله إلى "الكي دورسي"، وتاريخ
دخول فرانسوا هولاند قصر الإليزيه.
وخلال اللقاء الموسع الى جانب جون كيري وسيرغي
لافروف ومحمد جواد ظريف بالاضافة الى الثلاثي الرافض لأي حل سياسي بوجود الأسد،
السعودية وتركيا وقطر، تغيرت لهجة فابيوس، ونقل موقفاً فرنسياً أولويته
"محاربة الإرهاب". الموقف نفسه بات أكثر وضوحاً لدى الجانب الأميركي،
وباقي الدول الاوروبية، وانعكس في نهاية هذا النهار على البيان الختامي، فلم تأت
بنوده على أي ذكر لمصير الأسد، بل تبنيا كاملا للخطة الروسية الموضوعة قبل
الاجتماع بزمن.
قذفت
تفجيرات باريس فرنسا إلى مكان آخر. الرأي العام والمعارضة بشقيها اليمين التقليدي
واليمين المتطرف باتوا يطالبون باعتماد سياسة خارجية أكثر عقلانية وواقعية في
الموضوع السوري وفي العلاقة مع دول الخليج وتحديدا السعودية وقطر، وبانفتاح أكبر
على إيران وعلى روسيا كما يطالب أحد أهم النواب اليمنيين المعارضين ألين مارسو عبر
الميادين. وذهب البعض من سياسيي فرنسا الى تحميل السياسة الخارجية المتبعة حتى الآن
مسؤولية التفجيرات الباريسية. من بين هؤلاء فرانسوا فيون الذي يوضح: "منذ
ثلاث سنوات كنا نطالب بقيام نوع من التحاف يجمع الروس والأميركيين والأوروبيين والإيرانيين
والنظام السوري لمواجهة الإرهاب، ولو فعلنا ذلك لما حصل ما حصل"، ويتابع: "فابيوس
رفض أي تعاون مع روسيا واي انفتاح على سوريا فكيف سنحارب الإرهاب من دون أن يكون
لنا أي دعم من قبل الذين يحاربونه على الأرض؟".
أمام
الواقع الجديد، والمتغيرات في المزاج السياسي الفرنسي، والأهم مزاج الشارع الفرنسي
الذي حسم أمره قبل السياسيين ومباشرة بعد اعتداءات 13 نوفمبر، ووجهة نظره تقول
"ان لا الأسد ولا الروس ولا الاريرانيين من يقتلنا في شوراعنا، بل ارهابيون
مدعومون من قبل حلفاء فرنسا"، كان لا بد من التغيير السريع في الخطاب
الاشتراكي الفرنسي. قفز هولاند أبعد مما يطالب به اليمين الفرنسي التقليدي على
المستوى الداخلي، من خلال فرض حالة طوارئ لمدة ثلاثة أشهر مع اجراءات امنية مشددة
وأذعن حتى لمطالب يمينية متطرفة تتعلق بسحب الجنسية الفرنسية من مزدوجي الجنسية في
حال كان لحامليها اي علاقة بالإرهاب.
أما
على المستوى الخارجي فاختار هولاند العمل باستراتيجيتين، الأولى سريعة جدا تجلت
بانفتاح واسع على الإيرانيين والروس، وهؤلاء (الروس) فتحوا له الباب واسعا،
فانتهزوا فرصة ضعف باريس امام التهديدات التي تعانيها، وقرروا تعاونا عسكريا
مباشرا معها في المتوسط وفي الاجواء السورية. من وجهة نظر باريس، بات التعاون
مع إيران اليوم "حاجة ملحة" في الحرب على الإرهاب، "فهي التي تحارب
على الأرض" ولا بد من تنسيق التعاون معها في هذه المواجهة، بحسب أوساط
الخارجية الفرنسية في معلومات خاصة بالميادين.
ولم
يأت تخصيص باريس لإيران فقط كونها "من يحارب على الأرض ووجب التعاون
معه" من عبث، فبحسب المتخصصة بشؤون الإرهاب أنّ غوديتشلي "لا يمكن
محاربة الإرهاب من الجو فقط ولا بد من تعاون ميداني مع من يقاتل على الأرض"،
ولتجنب التعاون مع الجيش السوري، فضلت باريس الاسراع بمد الخطوط مع الروس والإيرانيين،
وهنا تبرز الاستراتيجية الثانية، وهي تتعلق برؤية الفرنسيين للحل في سوريا. صحيح
أن هولاند قدم ولأول مرة محاربة الإرهاب على شعاره التقليدي "مستقبل سوريا
بلا الأسد"، وأنه سعى لتشكيل تحالف دولي لمحاربة داعش، لكن هذا التحول لم
تكتمل دائرته بعد، وما يحول دون ذلك صعوبة اجراء تحول دفعة واحدة مع نفس الأشخاص
الذين كانوا أكثر المتشددين كلوران فابيوس، وبسبب العلاقات التي لا تريد باريس أن
تتخلى عنها مع السعودية وقطر.
وتكشف
اوساط الفريق الذي يحضر لجولة موسكو وواشنطن في الخارجية الفرنسية ان خطة هولاند
بالنسبة للملف السوري والتي سيعرضها على فلاديمير بوتين وباراك أوباما، تقوم على
ثنائية "مواجهة داعش بالتوازي مع مواكبة انتقال سياسي في سوريا"، تبدأ
أولا بوقف اطلاق النار بين "قوى المعارضة المعتدلة" التي تعتقد باريس أن
تعدادها يصل الى 60 الف مقاتل، وتستخدم الاستخبارات الفرنسية على خارطة توزيع
القوى في سوريا اللون البرتقالي (ORANGE) للاشارة الى هذه القوات، وبين القوات الحكومية الملونة
بالأخضر ( VERT) والمؤلفة من 80 الف عسكري.
وترى
باريس أن "القوات المعتدلة" يمكن لها ان تواجه اللون الأحمر (ROUGE) أي تنظيم داعش
"30 الف مقاتل" وجبهة النصرة "من 15 الى 20 الف مقاتل" معاً،
في حال تم تجهيز هذه القوات "المعتدلة" بشكل جيد وشرط وقف النار مع قوات
النظام، هذا في مرحلة أولى، أما في المرحلة الثانية، أي بالتوازي مع تقدم الحل
السياسي على اساس حكومة انتقالية فإن "الجيش الحر" والجيش النظامي ،
"يمكن أن يتحدا لمواجهة التنظيمات الإرهابية".
وتقول
هذه الأوساط في الخارجية الفرنسية، إن هولاند سيطلب من الرئيس الروسي فلاديمير
بوتين بشكل واضح المساعدة على اقناع السوريين بوقف اطلاق النار بين
"الجيش الحر" والجيش النظامي، وحصر الضربات الجوية الروسية بمواقع
داعش والنصرة فقط، أما من الرئيس الاميركي فتقول اوساط الخارجية الفرنسية إن
هولاند سيطلب من أوباما مساعدة عملانية أكبر ولا سيما "السماح لفرنسا
بالاطلاع أكثر على المعلومات التي تملكها الولايات المتحدة حول خارطة المواقع في
سوريا تسهيلا لعمل سلاح الجو الفرنسي"، كما سيطلب من أوباما القيام بضغط أقوى
على تركيا من أجل اقفال ما تبقى من حدود مفتوحة امام تنقل الإرهابيين بين تركيا
وسوريا.
وفي
خطة هولاند، مكان دائم للثنائي القطري - السعودي، إذ يعتقد الرئيس الفرنسي أن
هاتين الدولتين يمكن ان تسهما بشكل فعال في مواجهة الإرهاب، وسيكون الاعتماد
عليهما في دعم الفصائل "المعتدلة".