رئاسة فرنسا ورئاسة الحكومة اللبنانيَّة
بالنسبة إلى لودريان، الأولوية استثمارية، لذا، كان الحرص على رضا السعودية ودول الخليج التي حقَّق معها أكبر صفقات في تاريخ فرنسا
وَجهُ لودريان غاضب، ومثله وجوه المسؤولين اللبنانيين. ما الَّذي يريده وزير خارجية الانتداب من لبنان؟ هل هو ما يريده بالضبط رئيسه الشاب؟ الأسئلة تبدأ من زيارة الوزير الأولى التي سبقت انفجار المرفأ بأيام!
يومها، كتبت مقالاً في هذه الزاوية بعنوان "ليبانومونيا بعد الإيجيبتومونيا". كتبته قبل انفجار المرفأ بأربعة أيام، ونُشر قبله بأربع ساعات (الميادين 4 آب/أغسطس 2020)، وذلك ربطاً بمقال صحافي مصري ساذج تحدَّث عن ولَه لودريان بمصر، كما كان حال نابوليون بونابرت. هذا الولَه كان ثمنه شراء مصر 24 طائرة عسكرية من طراز "رافال"، بعد أن كانت بائرة في مخازن صناعتها طوال 15 عاماً، وبعد أن حاول ساركوزي بنفسه التسويق لها وفشل، ما جعل الوزير يصرّح بأنه يشعر كأنَّ فرنسا فازت في السباق الدولي للدرّاجات، ليلي ذلك عقد آخر ببيع مصر قمراً صناعياً عسكرياً بقيمة 660 مليون يورو. حصل هذا في عهد الحكم الاشتراكي.
هذه الصفقة لم تكن إلا جزءاً يسيراً من صفقات نجح وزير دفاع هولاند الاشتراكي، ثم وزير خارجية ماكرون نصف اليميني، بعقدها، ليستحقّ لقب "رجل الصفقات"، وليكون الوزير اليساري الوحيد الَّذي أبقى عليه ماكرون، واستحقّ إجماع اليمين واليسار على المديح، ما دام قد حقّق في العام 2016 وحده 14 مليار دولار من الصّفقات.
هذه الصفقات فصَّلها المقال المذكور، ليطرح السؤالين المنطقيين: ما الذي يريده رجل الصفقات من لبنان؟ وهل سيصاب بولَه لبنان (ليبنامونيا)؟
لم تتأخَّر نوبة الولَه. بعد أيام، انفجر المرفأ، وأسرع الرئيس الفرنسي الشاب يعبّر عن وَلَهه، بدءاً من فيروز، إلى عناق المتظاهرين في شوارع الجميزة، وصولاً إلى تفقّد المرفأ - البضاعة، في الوقت الذي كانت الشرطة تردّ عنه متظاهري السترات الصفراء في شوارع عاصمته.
وعاد لودريان.
عندما قام ساركوزي بمهمة عقد الباطن لبوش، حصل على ثمن زهيد: 3 مليارات تدفعها السعودية منحة للجيش اللبناني لشراء خردة أسلحة فرنسية، تحصل مقابلها على هتاف ميشال سليمان بحياة المملكة العربية السعودية.. لكن هذا الثمن لا يغري رجل صفقات العشرات من المليارات. عين الأم الحنون على الكهرباء، وعينها الأخرى على الاتصالات والمواصلات، وخصوصاً المطار، وعيناها معاً على المرفأ الواقع على طريق الحرير، والمجاور لمرفأ طرطوس - أي ورقة كبرى إزاء روسيا والصين - وعيناها ولعابها السائل على شرق المتوسط وما فيه من طاقة.
إذاً، الخصخصة، ثم الخصخصة، ولكن مع حكومة تضمن لها الحصة الكبرى. سعد الحريري، الوريث التاريخي للاستثمار، بالتعاون مع فرنسا، قدم أوراق اعتماده في ما أسماه "الورقة الإصلاحية"، مقدمة للحراك الذي اندلع في بيروت واختفى منذ تكليفه مجدداً (والذي صادر حراكاً ممكناً وحقيقياً). هل نسينا يوم خرج علينا قبل الحراك مباشرة، يحمل ورقته ويعدد قائمة المؤسسات التي يريد خصخصتها (الخصخصة والمنصة، الميادين، 28/10/2019)؟ وهي خصخصة معروفة الارتباط بالملفات الدولية، إضافةً إلى أنه لا يجوز تجاهل دور اللوبيهات اليهودية الفرنسية وغيرها، ومن بين هؤلاء أصحاب الجنسيات المزدوجة، الطامحون للهيمنة الاقتصادية على لبنان بموقعه ومقاومته.
اندلع الحراك ليستقيل الرجل ويخنق البلد، ويأتي المنقذ الفرنسي بمطلب حكومة "اختصاصيين" أو "مهمة"؛ مهمة تنفيذ ورقة الحريري وبيع أملاك الدولة وقبض عمولاتها. وعليه، يجب أن يكون وحده. أما استرضاء الناس المخنوقة الغاضبة، فبشتائم تُوجه إلى السياسيين من ماكرون أو لودريان أو ممن يوجهونهما، من دون أن يسأل المغتبطون: من هم هؤلاء المشتومون؟ ولماذا لا تكشف فرنسا عن تهريب الأموال اللبنانية إلى بنوكها وعقاراتها؟ لماذا لا تحجز عليها؟
حسّان دياب تم إفشاله، ومصطفى أديب لم يكن إلا فاصلاً إعلانياً ألمانياً، وإن نطق بالفرنسية. القصة مستمرة، والبطل لم يتغير. ورقته في جيبه، لكن المنتج قد يستبدل البطل الذي لا يحقق أرباحاً في شباك التذاكر، وخصوصاً إذا اشتدت منافسة شبابيك دور عرض أخرى، أو إذا تغيّر المزاج العام، غير أن المنتج اليوم لم يعد شراكة مكتملة بين الكي دورسيه والإليزيه، كما كان الحال في مراحل كثيرة.
بالنسبة إلى لودريان، الأولوية استثمارية. لذا، كان الحرص على رضا السعودية ودول الخليج التي حقَّق معها أكبر صفقات في تاريخ فرنسا. وفي الساحة اللبنانية، ما لم يكن خيار الحكومة السريعة ممكناً، فليتوجَّه العمل إلى انتخابات 2022، على أمل التوصل إلى أكثرية نيابية مدعومة فرنسياً، وبقبول أميركي، يمكنها أن تحقق ما لم يستطع الحريري تحقيقه.
أما بالنسبة إلى الإليزيه، فالأولوية للانتخابات الرئاسية المقبلة بعد عام، والانتخابات المحلية التي تدور معركتها الآن. وفي الاثنتين، ثمة عامل يتصدَّر المشهد الفرنسي الداخلي، ويجعل حاجة ماكرون إلى تسجيل اختراق أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. هذا العامل هو تقدم أقصى اليمين بشكل لم يسبق له مثيل، لأسباب تستحق تناولاً مستقلاً. في المقابل، انقسام معسكرات يمين الوسط المؤهلة لمواجهة مارين لوبان.
زعيمة التجمع الوطني تقضم من ناخبي اليمين، في حين يقف ناخبو اليسار خارج هذه اللعبة. وبذلك، يقف ماكرون ومعسكره أمام خطرين: مرشح اليسار ومرشحة أقصى اليمين. يقف خالي اليدين من إنجاز مهم، ويبحث عنه في لبنان. أما لودريان، فمكانه محفوظ لدى اليسار الذي قد يلقى الآن دعم الإدارة الديمقراطيّة الأميركيّة التي لطالما كان قريباً منها.
في العام 2010، سرّبت "ويكيليكس" مجموعة برقيات من سفارات واشنطن في دمشق وباريس، من بينها برقية بعنوان "الطموحات الفرنسية المحبطة"، صادرة عن السفارة الأميركية في باريس في العام 2008، تتناول فشل سياسة فرنسا في الشرق الأوسط، وتحديداً محاولة احتواء سوريا، وتفكيك محور المقاومة، وإحياء مشروع السلام، وترتيب مشروع غاز المتوسط، ومد خطوط الغاز القطري (الميادين 21 أيلول/سبتمبر 2020).
قبل ذلك، كانت صحيفة "لوموند" قد أوردت أن ساركوزي أقنع الإدارة الأميركية بتفويض أمر لبنان وسوريا إليه، وحصل على الموافقة، بسبب انشغال الأميركيين بأفغانستان والعراق. وعليه، هدد كاتب المقال بأنَّ فشل فرنسا في هذه المهمة سيجعلها غاضبة جداً، ما سيترجم بموقف وعمل عدائي تجاه من أفشلها، وهو ما حصل في الحرب السورية، فبماذا سيُترجم الفشل في لبنان وقد تغيَّرت السياقات؟ بمحاولة يائسة لتثبيت مبادرة، وهي أمر شبه مستحيل، أو بترحيل الرهان إلى العام 2022 والعمل لخدمته منذ الآن؟