تجلّيات الصراع
شهدت المفاهيم صراعاً مستمراً وخُيّل للذين يمارسون الطغيان على الأرض وسلب الحقوق بقوة السلاح، أنهم انتصروا في معركتهم النهائية.
علّ الدور الأكبر الذي لعبه فايروس كوفيد-19 المستجد، هو تظهير الصراع بين مدارس وأخلاقيات مختلفة وأحياناً متناقضة تتنافس للإمساك بدفة العالم لتوجيهه الوجهة التي تريد؛ فالصراع بين الخير والشر وبين الحق والباطل قديم قدم وجود الإنسان على الأرض، ولكن وبعد الثورة الصناعية في الغرب واحتلال بعض الدول الغربية لمصادر الطاقة والثروات التي استخدمتها لبناء ورفاه بلدانها على حساب أصحاب هذه الثروات ومالكيها في أرضهم، اشتدّت أطماع الدول الغربية في الأرض ومكامن ثرواتها، سواء أكان هذا في أفريقيا أو أميركا اللاتينية أو آسيا وخاصة دول الشرق الأوسط منه.
وفي العقدين الأخيرين، تكاتفت قوى المال وتكديس الثروات وصنّاع السلاح ومطورو التكنولوجيا ليحاولوا وضع مفاهيم تعيد صياغة العالم بالطريقة التي تخدم ازدياد ثرواتهم على قلّة عددهم، والتحكّم بمصائر ملايين البشر على هذه المعمورة، واجترحوا في سبيل ذلك سبلاً وأدوات مختلفة لا علاقة لها بالخوف من الخالق أو الإيمان بأن الحياة مؤقتة للجميع، وأنهم مهما وصلوا من قوة وثروة فإن الموت بانتظارهم مثلهم مثل أفقر البشر وأكثرهم حاجة. وفي هذا السياق، وسواء أكان كوفيد-19 من صدف الطبيعة أو من صنع البشر، فلا شك أن انتشاره على هذه الأرض والرعب الذي سبّبه وتأثيره اللا مسبوق على تغييرات جذرية في طريقة حياة البشر قد استدعى وقفة معه ومع الكون ومع الذات أيضاً، وأخذ الكثيرون يتساءلون ما إذا كان السعي اللاواعي أحياناً وراء الاستحواذ على الأشياء المادية والاستهلاكية، ما إذا كان هذا متجذراً بطبيعة الإنسان أم هو نتاج دعايات وإعلام أرهقت كاهل البشر وجعلت السلعة ذات قيمة كبرى في حياتهم على حساب صحتهم وراحة بالهم وقناعتهم وعلى حساب قدر كبير من الحبّ والعطاء.
ففي الوقت الذي يخضع به البشر للحجر خوفاً من انتشار الفيروس تتساءل النساء والرجال عن جدوى تكديس آلاف قطع اللباس والأحذية والجزادين وغيرها من الأشياء المادية التي تفوق حاجاتهم، حتى لو عاشوا عشرات السنين، وما كان سبب ذلك اللهاث وراء تسميات معينة اقتنع مالكوها أنهم بامتلاكها يصبحون بشراً متميزين بينما تؤرقهم عشرات المسائل الصغيرة التي تحرمهم من النوم والتي لا يجدون وقتاً لمعالجتها أو أعصاباً للتعامل معها.
وقد ينظر هؤلاء الذين يرتدون أفخم الماركات ويقودون أحدث السيارات بعين الحسد لعائلة صغيرة في قرية بعيدة تعيش على ما تزرعه في الأرض، وتنعم بالحب والهناء بين أفرادها، وتأوي إلى النوم قريرة العين مرتاحة الضمير ممتنة للصحة وفيض من المحبة. مع كلّ العقبات التي أحدثها كوفيد-19 في التواصل بين البشر وفي تغيير أنموذج حياتهم، فقد تسبّب في كثير من الأحيان بوقفة مع الذات، خاصة حول جدوى التطوير الهستيري للطبائع الاستهلاكية والتي تسببت في إحداث فروقات مؤلمة في مستوى العيش بين البشر فأصبحت قلة قليلة تملك مفاتيح المال والثروات وطرق تراكمها ومضاعفتها، بينما ازداد عدد البؤساء والفقراء، ومُنعت عنهم وسائل تبديل أحوالهم ومعالجة أوضاعهم.
وكما هو الوضع هنا، فقد شهدت المفاهيم أيضاً صراعاً مستمراً وخُيّل للذين يمارسون الطغيان على الأرض وسلب الحقوق بقوة السلاح، أنهم انتصروا في معركتهم النهائية، وبدأوا يبثون دعايتهم بين ضعاف النفوس والمخذولين والمهزومين أصلاً؛ فهرول البعض معهم معتقدين أنهم يشترون خلاصهم من خلال اصطفافهم مع قوى الشرّ والعدوان غير مدركين أنها جولة للباطل، وأن الصراع مستمر وأن ما يدّعونه من قوة وانتصار وحسم أخير للمعارك ما هو إلا زوبعة إعلامية، أجادوا تعميمها والترويج لها ليشتروا بها وبثمن بخس غير المتجذرين وغير المؤمنين بالحق والعدل، وأن الانتصار في النهاية هو لأصحاب الحقوق.
ورغم كل الترويج الإعلامي المُسِفّ للمهرولين مع العدو الصهيوني، وتصريحاتهم المخزية في تأييده ودعمه، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي 23 كانون الأول/سبتمبر، بالأغلبية قرار "السيادة الدائمة للشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة بما فيها القدس"، حيث صوتت 153 دولة لصالحه بينما عارضته 5 دول إضافة إلى كيان الاحتلال الإسرائيلي، فيما امتنعت 17 دولة عن التصويت.
في زمن ترامب وقراراته المجحفة بحق القدس والجولان وفلسطين، وفي زمن الهرولة الخليجية غير المسبوقة لاسترضاء المعتدي على الأشقاء، يعتبر هذا القرار انتصاراً كريماً للحق في إحدى جولاته على الشرّ والباطل. ولو ثبت المدافعون عن قضاياهم وصبروا ورابطوا لانتصروا دون شكّ، ولكن العدو يعمل ليل نهار لإيهامهم أن الصراع قد حسم لصالحه، وهو يعلم علم اليقين أنها أكذوبة اخترعها ليضلّ بها ضعاف النفوس. هناك عالم كبير شاسع مازال فيه أناس يعرفون معنى الضمير والوجدان، ويميّزون بين الحق والباطل، ولا يخشون في الله لومة لائم.
وما كلّ هذا الضجيج حول نهاية الصراع ونهاية المعارك وإعلان انتصار الاحتلال والظلم والعدوان إلا نوع من الهذيان ناجم عن ضعف الأصوات المنادية بالحق وتشرذمها وعدم تماسكها صفاً واحداً، ولكن هذا الحال لن يدوم وستتصدى له القوى التي لا تهون ولا تهادن ولا تقنط من رحمة الله ومن إحقاق الحقوق. "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا" هذا هو المطلوب في هذه المرحلة؛ الصبر مع العمل ووضوح الرؤية وثبات اليقين.
إن ما يجري اليوم هو جولة واحدة في مسار طويل، وإن المؤمنين بأرضهم وحقوقهم قادرون ولو بعد حين على تغيير هذا المسار لصالح أصحاب الحقوق والأرض. ومن هذا التغيير لابد لنا من أن نجترح الأدوات الصحيحة التي تقودنا إلى النهاية المرجوّة، وأول هذه الأدوات هي المنافسة في العلم والحضور في تعميم وتفسير المفاهيم، وعدم إخلاء الساحة في أي مجال للآخرين؛ فقد اقترح حافظ الأسد (رحمه الله) منذ عام 1985، مؤتمراً دولياً للتمييز بين الإرهاب وبين حق الشعوب في التصدّي للاحتلال الأجنبي وتحرير أرضها، ولكن أحداً لم يستجب، ومازال خلط مفهوم الإرهاب مع المقاومة المشروعة ضد الاحتلال أحد أهم الأدوات التي تستخدمها قوى الاحتلال والاستيطان.
علينا أن نشحذ أدوات العلم والمعرفة وأن نوحد الصفوف وأن نؤمن أننا قادرون على تغيير موازين القوى، لأننا نمتلك الحق إلى جانبنا بينما هم يدافعون عن الباطل، وألا نسمح لليأس أن يدخل إلى قلوبنا وأن نفرز الغثّ من السمين في إعلامهم الكاذب والمغرض، وأن نعلم علم اليقين أن الصراع لم يحسم بعد وأن جولات من المعارك تنتظر عملنا وأداءنا وأن كل ضجيج المطبعين والمهرولين وأسيادهم، ليس إلا زبداً يذهب جفاءً بينما عملنا لإحقاق الحق سوف يمكث في الأرض ويبشّر بمستقبل أفضل لأصحاب الحقوق وللبشرية جمعاء.