كوبا كاسترو.. رياح الحرّية في القصب
إذ نستحضر كاسترو كما الأبطال الأسطوريين، ونعرف أن الأغاني في كوبا ما زالت ممكنة ولا يزال الأطفال يأخذون حليب الصباح في المدارس، نتذكّر أن تاتشر قطعت هذا الحليب عن الأطفال في بريطانيا.
كاسترو، كما القلائل الذين يُشبهونه، والذين جُبلوا مثله من طين الخالدين إلى أن تقوم الساعة، تُستعاد ذكراه وفاءً ومحبةً وحزناً مُقيماً، مرّةً كلّ عام، كما الروح العظيمة تتبدّى في المطارق والمناجل والقصائد والأجراس والأغاني والرصاص.
كانت كوبا قبله وقبل جيفارا ورفاق الغرانما ودفاتر الديالكتيك، مفردةٌ في قاموسٍ موجعٍ ومرير: مواخير منتصف اللّيل وكازينو يرتاده الهاربون من ضجر الإمبريالية الكبرى في الجوار، و"رجال الذّرة"، كما اختصرتهم قصيدةٌ لميغيل استورياس.
في روايتين من الكارييبي، كانت أطياف كاسترو وغيفارا تلوح شيئاً فشيئاً:
- كاربنتيه في (مملكة هذا العالم) التي حازت على جائزة بوليتزر العالمية، وهو يجبل بطلها (ماكندال) من ضفاف الأنهار وأوراق الأشجار ونار الحطّابين، ويبعثه في فيديل.
- همنغوي في (الشيخ والبحر) والذي لم يخترع سانتياغو من عالم الخيال، ولم يجرح يديه المرّة تلو الأخرى في لجّة الماء والملح، ولم يرسل الكلام على لسانه جُزافاً (قد يدمّر الإنسان ولكنه لا يُهزم) إلا ليوافيَه مع الصيّادين والأكواخ والقناديل، باسمٍ جديد، فيديل.
فما أن أشرقت شمس الحرّية على كوبا بالنار والحديد، ومضى عهد الأميركيين وباتيستا وانقضى، رمى القائد، كما نوح، ظلّه على البرّ الجديد وأوقد نيراناً تُرى من كلّ مكان، وراح يتلو كتابه على الفقراء والمقاومين، من كل فجّ عميق:
الأرض للفلاحين، الدولة للمنتجين، المصانع للعمّال، الحليب للأطفال، النساء كما الرجال سواءٌ بسواء في الحياة والحقول والقوانين. لا أغلال في الأعناق والقدمين واليدين ولا في النجدين.
المدارس، الصحّة، الحافلات للجميع، وليكن فرح البسطاء غامراً ودائماً بقدر ما نستطيع، الموسيقى والشطرنج كما درسُ الحساب.
ومع حزمٍ لا يلين، لم يعدْ ليلُ هافانا للعابثين وماخوراً للمأفونين، ولم تعدْ كوبا جزيرةً للشّركات وشرطتها السريّة وعملاء الاستخبارات الأميركية.
ذاك ما كان من أمر الجزيرة، بعد قرنين من الاستعمار وبعد كانون الكبير منذ ستين عاماً ويزيد، وذاك ما كان من فيض الخاطر والخُطى إلى جهات الأرض الأربع، وأوّلها أرض خوسيه مارتيه وقارّة بوليفار، التي أرادها الأميركيون جمهوريات موز وحديقةً خلفيّةً للنهب والقتل وعبودية الإنسان.
هكذا، راحت أجراس كوبا تقرع في كلّ مكان، وراحت مياهها تفيض رويداً رويدا، تنحسر قليلاً بين الحين والحين، وتخون غيفارا في أعالي الأنديز، وتفيض أكثر مع شافيز، وفي لاباز، وتواصل الصّراع ولا تُحسن الظنّ أبداً بصناديق الإقتراع، وتذكّر الواهمين بالعشريّة السوداء لسفّاح أميركا في ثيابه الدبلوماسية، نيجرو بونتي، في هندوراس، السلفادور، تشيلي، بنما، نيكاراغوا، وغواتيمالا، ويوزّع حبّات الكبتاجون بدلاً من حبّات الدواء، وبلطاتٍ لقطع الرؤوس واللّسان والأصابع.
فمن ينسى دم سلفادور أليندي في تشيلي على شرفة القصر الرئاسي، بعد أن صدّق كذبة الإنتخابات، ومن ينسى الموسيقي، فنان الشعب والساحات، فكتور غارا وما تبقى من أصابعه، ومن ينسى الشاعر الكبير، بابلو نيرودا، وهو يرثي بلاده بعد أن حوّلها جنرالات البنتاغون إلى مقبرة.
ولعلّ الأهمّ الأهمّ في كل ما سبق، هو أن كوبا كاسترو لم تَقُل كلمتها وتمشي، فللثّورة فلسفتها وقانونها وكتابها، حيث ينبغي أن تكون.
فلا بصمات لـ"الأوتبور" والثّورات الملوّنة، وسوروس وجين شارب وأكرمان، ومكتب السيدة هيلاري كلينتون، والمجتمع المفتوح، ونيد وراند وكارنيجي ومعهد واشنطن وبيت الحريّة المزعوم، ونظائرها من جمعيات الإسلام البريطاني والأميركي.
فلا ثورة بالتواطؤ مع الإمبرياليّين والليبراليّين والرجعيّين من محميّات النفط والغاز والعثمانية الجديدة، ولا ثورة بلا نظريّة ثوريّة وقياداتٍ وتحالفاتٍ ثوريّة. ولا تطوّر اقتصادي، ومجتمع مدنيّ، ومواطنة وعقد اجتماعي وجمعيات تأسيسية، خارج التحرّر الوطني وفكّ التبعيّة.
هكذا، بين المدّ والجزر، بين التقدّم والتراجع، خطوةٌ أو خطوتان، هنا وهناك، وكسر احتكار السلاح ونصب الصواريخ على مرمى المجمع الحربي الأميركي، ومجمع المال في المستعمرة الهولندية السابقة، مانهاتن، ظلّت كوبا كاسترو جزيرةً للحريّة وأنشودةً للفقراء والمقهورين ودرساً استثنائياً في الصلابة والثّبات.
قلبها دافئٌ مثل شمسها، وطعمها مثل قصب السكّر، وكتابها مفتوحٌ لكلّ المقاومين والتوّاقين لعالمٍ حذِره غيفارا حتى لا يُلقي بثقله على صدر المعذَّبين، عالمٌ بلا استغلالٍ وبلا أغلال، من جزر الكاريبي، إلى فلسطين.
ومن بستان الثورة، يُزهر بألف وردةٍ ووردة (التعبير لماوتسي تونغ) إلى موجات الأطباء الكوبيين، ينتشرون كما المسيح حول بحر الجليل.
وبعد، إذ نستحضر كاسترو كما الأبطال الأسطوريين، ونعرف أن الأغاني في كوبا (لسه ممكنة) ولا يزال الأطفال يأخذون حليب الصباح في المدارس، نتذكّر أن تاتشر قطعت هذا الحليب عن الأطفال في بريطانيا، ونعرف كم يعاني الأطفال في مزارع الكاكاو في الدول التّابعة (حبة موزٍ واحدة في العاشرة صباحاً، ووجبة ذُرة في التاسعة مساءً).