لبنان: الخصخصة والمنصة

ألم تكن آخر مراحل هذا الإشعال: تطويق المقاومة لشلها، افتعال أزمة اقتصادية، إشاعة جو الانهيار والإفلاس، تهديد الناس في رواتبهم، استشراس البنوك لخنق البلد، وأخيراً إشعال الأرض وما فوقها؟

الخصخصة هي ما يدور حوله خطاب الرئيس سعد الحريري (أ ف ب)

الخصخصة الخصخصة الخصخصة، هي ما يدور حوله خطاب رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري، منذ أن جاء إلى هذه الولاية الأخيرة من حكمه وحتى الآن. وهي أيضا جزء من ورقته التي سمّاها إصلاحية بعد جلسة مجلس الوزراء. ورقة أمكن تلخيصها بكلمة: إما أن يستمر النهب والفساد وإما أن نبيعكم للمستثمر الخاص الأجنبي.

بداية مصطلح الإصلاح في قاموس الليبرالية بل والنيوليبرالية تعني لبرلة الاقتصاد والمجتمع. والإصلاحيون هم المرتدون عن أي قناعة قومية سيادية أو يسارية، إلى تبني الليبرالية، بل النيوليبرالية.

ثانياً، نهاية الحرب الأهلية لم تؤل إلا إلى خصخصة البلد، أو هيمنة الرأسمال الخاص على البلد. فهل جفّ ضرع البقرة الحلوب التي اسمها الدولة، وأصبح الحل هو بحث بائع الحليب عن وسيلة لبيع البقرة ذاتها؟

ثالثاً: اللبنانيون وُضعوا منذ سنوات تحت ضغط الفساد، والنهب والقصور وتحالف السلطة السياسية المختلفة على كل شيء إلا على نهب الناس، حيث تطبق المحاصصة كما تطبق في الوظائف والمناصب. وفي السنة الأخيرة بلغ هذا الضغط أوجه لينتهي بتكالب المصارف وخنقها لكل الناس، ومن ثم بإحراق البلد، من دون أن يجد حكومة تطفئه ..... ثمة نظرية سياسية أميركية شهيرة تعود للمنظّر دانيال ليرنر، عراب التنظير لكيفية إلحاق الشرق الأوسط بالهيمنة الأميركية، منذ 1950، هذه النظرية تسمى "انفجار الآنية المغلقة" وتتلخص في أنه بإمكانك تفجير آنية الطبخ المضغوطة إذا ما استمرّيت في إشعال النار تحتها من دون تنفيس الى أن تنفجر . وما عليك خلال هذه الفترة سوى فعل أمرين: الأول ضمان استمرار النار بطريقة أو بأخرى، والثاني أن تهيئ نفسك خلال فترة الاشتعال لفترة التفجر، وذلك بأن تحدد أهدافك وتحضر استراتيجيتك وتكتيكاتك. 

رابعاً: كي تتمكن هذه الاستراتيجية من التحقق، يجب ألا تكون لهؤلاء الناس المخنوقين قيادة واعية، بعيدة عن حالة الفساد والخراب، وألا تكون لهم أطر منظمة تضبط التحرك والإيقاع. ومن هنا رأينا الإعلام المبرمج يركز منذ بداية الربيع العربي في تونس، وحتى بيروت، مؤخراً، على أن الحراك عفوي ومن دون قيادة. مستغلّين في ذلك ردة فعل الناس على القيادات التقليدية التي كانت تتحول الى ديكتاتورات أو الى فاسدين مشاركين. وغالباً إلى كليهما معاً.

ويستطيع المراقب أن يلحظ أن تتفيه أو شيطنة فكرة الأحزاب السياسية، هو ما بدأ التسويق له منذ عام 1990، أي منذ ترسخ العولمة النيوليبرالية بعد انهيار النظام الاشتراكي العالمي، وفي منطقتنا بعد احتلال العراق. بدأ التسويق له بالسخرية الدائمة من الأحزاب الحقيقية لا الاسمية، وتشويه صورتها في الخطاب العام، الإعلامي والثقافي والاجتماعي. فالقومي " قومجي" واليساري " مرَّ عليه الزمن " وخطابهما " خشبي" لا يناسب العصر.  وقد ساعدهم في ذلك الأخطاء الهائلة التي وقعت فيها الأحزاب العربية، خاصة خطأ الأحادية وقمع حرية الرأي وعدم تطوير شكل الخطاب. إضافة الى وقع هزيمة الدول أو الثورات التي قادتها هذه الأحزاب، أمام إسرائيل أو أمام الأميركي. وهنا بدلاً من السعي الى إصلاح هذه الأحزاب وما يمكن أن ينشأ الى جانبها من أحزاب أخرى جديدة، للحفاظ على المنجزات الكثيرة التي حققتها، اجتماعيا وثقافيا وسياسيا وحتى اقتصاديا، ولتغيير الأخطاء الكبيرة التي وقعت فيها.

بدلاً من ذلك ذهبنا الى إبعاد شبابنا عن الفكر، والصراع الفكري الحر على الساحة العامة، والانتماء الحزبي المؤطّر والمنظّم في إطار تعددية تقود الحياة السياسية والاجتماعية، وتفرز فئة حاكمة وفئة معارضة، تختلفان على الرؤى والبرامج والتطبيقات التي يرى كل فريق فيها مصلحة الوطن. لم يسأل أحد: لماذا لا تسير الحياة السياسية في المجتمعات المتحضرة إلا بديناميكية حزبية واضحة: في الولايات المتحدة نفسها، حزبان، في بريطانيا أربعة، في فرنسا ستة، في ألمانيا أربعة الخ... لماذا تسير الآلية السياسية كلها لتحقيق تحديد قيادات واضحة للأحزاب وبالتالي للمجتمع؟ سيرد الشباب بأن هذه الآليات هي آليات ديمقراطية وبالتالي فالقيادات كذلك. هذا صحيح، لكنه يعني بالتحديد، أن المطلوب ليس التنكر للأحزاب والقيادات وإنما تغيير الآليات والقيادات وطريقة وصولها وعملها، ما يعني تغيير الفكر والنظرة الى الحياة.

قد يجيب شاب بأن هذا الكلام يوتيوبي، لأن الناس يريدون أن يأكلوا ويعملوا ويُعالَجوا، لا أن ينظّروا. هذا صحيح أيضاً، ولكن هؤلاء الناس لن يصلوا الى أي شيء من هذا بكرامة، ما دام الفكر السياسي الذي يحكم البلد إقطاعياً – طائفياً، لا ينظر الى الناس كمواطنين وإنما كرعايا، كما كان الحال أيام السلطنة العثمانية.

لن يصل الناس الى شيء ما دام الموجودون في الساحات هم الذين ذهبوا الى صناديق الاقتراع بخيار طائفي، إقطاعي، خدماتي (فردي)، أو ببيع كرامة إنسانية يريد الآن أن يطالب بها. لا يحق لمن يتصرف كالقطيع بأن يطالب بحقوق المواطن. ولو لم يكن الأمر كذلك لما تجرّأ، منذ البداية، رموز الفساد والإقطاع العائلي (أبا عند جد بل وعن عم وخال) على محاولة سرقة الحراك المطلبي. لما تجرّأ رئيس وزراء ابن رئيس وزراء، منذ ثلاثين سنة أن يخرج الى الناس ويحدثهم كأنه عرّاب ثورتهم وغضبهم، وأن يمنّنهم بأن حراكهم سُمح له بممارسة ضغط مرّر تحته مشاريعه للخصخصة ولبيع البلد مرة أخرى. ولم يتجرأ وزراء حزب - أبلغ ما في سخرية القدر أن يدّعي الاشتراكية - على تبنّي خطاب رئيس الوزراء نفسه بل والمزايدة عليه، كأنه لم يكن في الحكم منذ ثلاثين سنة حتى الآن، لا يترأس ويشارك في عشرات مجالس الإدارة الاستثمارية، لم ينهب أموال المهجرين ولم يشارك في أفضال سوليدير. هذه المرة لن نكون أمام سوليدير، بل سوليديرات (إن نجحت الخصخصة) .. خصخصة تحلحل الأوضاع لفترة وبعدها يجد الناس أن بلدهم لم يعد لهم، وأنهم باتوا عبيد الشركات الأجنبية التي تشكل البنوك والشركات المحلية فروعا باطنية لها. وعليه فكل ما في الورقة الإصلاحية مسكّنات مؤقتة أو رشى مؤقتة (كما هي العادة)، لا جدية إلّا في مسألة الخصخصة التي لطالما شكا الحريري بأنه يريد تمريرها وثمة من يقف عقبة في وجهه، فهل وُظّف حراك المقهورين الغاضبين لإزالة هذه العقبات؟

سيسأل آخر: وهل لدى لبنان ما يستحق كل هذه المخططات؟ ماذا لديه؟ نعم لبنان لديه الكثير، والأهم أن الغاز قادم، وتقاسمه بين الشركات اللبنانية وزعماء الطوائف والإقطاعيات هو لب المشكلة بينهم، وليست حقوق الناس. غير أن الكعكة الكبرى ليست في لبنان، فهذا البلد الصغير سيكون المنصة الكبيرة للانطلاق في الاستثمار في إعادة بناء سوريا، ولدخول الشركات الأجنبية (المتعددة الجنسيات، الغربية أو الخليجية) الى الساحة السورية في مرحلة ما بعد الحرب العسكرية التي لم تعد بعيدة.

ولدى لبنان حركة المقاومة المنظمة التي تخيف العدو والأعداء الطامعين، والتي يُطرح الرهان على تطويقها، تطويق له احتمالان: إما القمع وإما التمييع. الأول إيجاد جو حكومي سياسي عسكري، وشعبي لذلك، بحجة أن وجودها هو سبب الأزمة. وربما يبدو هذا صعبا. بدليل أنه طُرح كثيرا في اليومين الأولين على لسان ناشطي القوات اللبنانية، ثم تم السكوت عنه فيما بعد. أما الثاني فأضمن وأسهل ويتمثل في أن تحويل البلد الى مجتمع استهلاكي مبالغ (علماً بأن معظم النفقات الحالية هي نفقات جارية غير منتجة) والى مجتمع مرتهن في لقمته وعمله للأجنبي وللقطاع الخاص، خاصة بعد جوع وحرب، سيلغي أي ثقافة مقاومة، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى يتجاوز حزب الله بحد ذاته. وسيلغي أي معنى للسيادة والحمائية، في حين تعود الولايات المتحدة نفسها الى سياسة الحمائية السيادية.

كل حراكات الربيع العربي بدأت انتفاضة مقهورين، مخنوقين، ولكن فيها كلها، كان وراء هؤلاء من راقب طويلاً الآنية المغلقة، وبإمكانه تقدير توقيت انفجارها لأنه، من جهة يدعم تأجيج النار تحتها ومن جهة أخرى يعد العدة البشرية والتخطيطية للمساهمة في تفجيرها ولاستغلال هذا الانفجار.

ألم تكن آخر مراحل هذا الإشعال: تطويق المقاومة لشلها، افتعال أزمة اقتصادية، إشاعة جو الانهيار والإفلاس، تهديد الناس في رواتبهم، استشراس البنوك لخنق البلد، وأخيراً إشعال الأرض وما فوقها؟

هل يعني ذلك أن الحل في الاختناق والسكوت؟ الحل في ملاقاة هذا المشعّل والمستغّل عند قارعة زحفه، في المساهمة في الساحات وطرح عقد اجتماعي جديد، قانون انتخابات ووزارات ورئاسيات جديد، في تبنّي اقتصاد إنتاجي وطني، بدلاً من الاقتصاد الاستهلاكي الريعي المتسول. بدءا من تنوير الناس في الساحات لحقيقة ما يُقدَّم لهم من وعود، وما يُخطَّط لهم خلفها. سواء من إلهاء بالقشور أم بالتفاصيل أم بالتحوير لاتجاه العداء والاستهداف، أم بالإعادة الى الحظيرة الطائفية والإقطاعية والزبائنية. حيث يتماهى رجال السياسة مع رجال الاقتصاد. 

قديماً كان الرومان يأمرون باقتسام الدائنين لجسد المدين وهو حي، إذا عجز عن وفاء دينه. وها نحن جسد يمزقه الدائنون ومرابوهم وسماسرتهم من جهة أخرى.