مائة وسبعون عاماً على رحيل باشا مصر محمّد علي
عاش الجبرتي انتقال مصر من العصور الوسطى إلى العصر الحديث وهي فترة اتّسمت بالاضطراب الشديد وشملت أواخر العصر العثماني الأول والحملة الفرنسية ونحو عشرين عاماً من فترة حُكم محمّد علي باشا.
كانت وفاة مؤسِّس مصر الحديثة، كما لقَّبه المؤرّخون، منذ الثاني من آب/أغسطس 1849 محمّد علي باشا.
لا جدال على أن محمّد علي حقّق نهضة في تاريخ مصر في التعليم والاقتصاد والجيش، لكن كان للمؤرّخ الجبرتي رأي آخر في مخطوطته المعروفة بـ"عجائب الآثار في التراجم والأخبار".
عاش الجبرتي انتقال مصر من العصور الوسطى إلى العصر الحديث وهي فترة اتّسمت بالاضطراب الشديد وشملت أواخر العصر العثماني الأول والحملة الفرنسية ونحو عشرين عاماً من فترة حُكم محمّد علي باشا.
دوَّن الجبرتي في تاريخه حوادث مصر منذ سنة 1689م وكان شاهِد عيان عليها منذ عام 1757م إلى عام 1821م. هذه الفترة المُهمّة من تاريخ مصر التي تُعدّ الحد الفاصل بين عصر الركود والهدم والتخريب إلى عصر النهضة والإنشاء والتجديد. كانت كتابات الجبرتى في مؤلّفيه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" و"مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس"، تُعدّ بمثابة الركائز الأساسية في كتابة تاريخ مصر الحديث، إذ ذكر صاحبها الحقائق التاريخية من دون مُجاملة لحاكمٍ أو غيره، وعالج مشاكل المجتمع المصري مُعالجة البصير بالأمور وحَكَم عليها حُكماً مقبولاً.
كما ترجم لشخصيات مصر في ذلك العهد ما جعل المؤرّخ البريطانى توينبي يصفه بأنه مثل ثوكيديدس اليوناني الذي وقع عليه عبء كتابة حُقبة من تاريخ الحضارة التي ترعرع في ربوعها وإنه بوسع مصر أن تفخر به. وقال عنه الدكتور محمّد أنيس إن أهم ما يُميِّز الجبرتي دقَّته واستقصاء الحوادث وموضوعيته، فضلاً عن أنه كتب عن عصورٍ ثلاثة هي مصر العثمانية والحملة الفرنسية وعصر محمّد علي.
ويُعتَبر ما كتبه الجبرتي وثيقة تاريخية مهمة وفريدة في تاريخ مصر السياسي والاجتماعي، وأنه يحمل بين جنباته صورة مُفصّلة عن حياة المصريين الاجتماعية ويتضمّن التأثيرات الموضوعية للحملة الفرنسية على مصر، كما يتضمّن فترة مهمة من حُكم محمّد علي بما لها وما عليها. الجبرتي كان رجل دين ودُنيا، ففي تناوله لسياسة الفرنسيين في مصر نجده يُندِّد بأعمالهم المُنافية للشَرْع ويمتدح في أحيانٍ أخرى رفضهم للسُخرة وتشكيلهم الديوان واهتمامهم بالقضاء وعنايتهم بالنظافة ومنعهم دفن الموتى في المدافن القريبة من المساكن.
كما أبدى إعجابه بنشاطهم العلمي ورغبتهم في البحث والمعرفة وتطلّعهم الزائِد للعلوم، فشاهد التجارب العلمية التي أجراها أمامه العلماء الفرنسيون وقال: "لهم تطلّع زائِد إلى العلوم وأكثرها الرياضة ومعرفة اللغات والمنطق ويدأبون في ذلك ليلاً ونهاراً وعندهم الآلات الفلكية الغريبة المُتقنة الصنعة وآلات الارتفاعات البديعة العجيبة التركيب الغالية الثمن".
كما أعرب عن دهشته مما شاهده عندما زار المجمع العلمي الفرنسي بقوله: "ولهم فيه أمور وأحوال وتراكيب غريبة ينتج منها نتائج لا تسعها عقول أمثالنا". وتأتي أهمية ما كتبه الجبرتي من كونه مُعاصِراً للأحداث ومُشارِكاً فيها أحياناً. فقد تمّ تعيينه عضواً في الديوان العام الذي أنشأه الفرنسيون في القاهرة، فكتَبَ: "لم أقصد بجمعه (يقصد كتابه عن الحملة الفرنسية) خدمة ذي جاه كبير أو طاعة وزير أو أمير ولم أداهن فيه دولة بنفاقٍ أو مدح أو ذمّ مُباين للأخلاق لميلٍ نفسي أو غَرَضٍ جسماني".
ونجده رغم دفاعه عن العثمانيين يُعرِب عن خيبة أمله في عودتهم إلى الحُكم بعد خروج الحملة الفرنسية لشعوره في بعض الأحيان أن الحُكم الفرنسي خير من الحُكم العثماني. وواجَه سياسات محمّد علي، مُعرِباً عن رفضه لعنفه واستبداده وقسوته التي تجلّت في وضعه أدوات الإنتاج في يده. وكان انتقاده لمحمّد علي يُسبِّب له المتاعب هو وأسرته فقال عنه: "إن طبعه الحسد والشَرَه والطمَع والتطلّع إلى ما في يد الناس وأرزاقهم".
كما أبدى سخطه مِن قيام محمّد علي بإثقال كاهِل المصريين بالضرائب والاستيلاء على مواشي الفلاحين وأغنامهم. ومع ذلك فإن الجبرتي أشاد بفضل محمّد علي في تعمير الإسكندرية ووصف ذلك العمل بأنه من محاسن الأفعال التي عجز السابقون عن القيام بها. كما أشاد بمحمَّد علي عندما قام بتشجيع أحد أبناء مصر من النُبهاء فذكر أن مصرياً يُدعى حسين شلبي عجوه ابتكر آلة لضرب الأرز وتبييضه تدور بطريقةٍ سهلةٍ توفّر على الناس الجهد وعمل لها مثالاً من صفيح وقدّمه إلى محمّد علي فأنعم عليه بالأموال وأمره أن يذهب إلى دمياط ليُقيم مصنعاً تستخدم فيه هذه الآلة.
ويقول عن محمّد علي في موضع آخر:"له مندوحة لم تكن لغيره من ملوك هذه الأزمان فلو وفّقه الله لشيء من العدالة على ما فيه من العزم والرياسة والشهامة والتدبير والمطاولة لكان أعجوبة زمانه وفريد أوانه". ويتّضح أن الجبرتي لم يتجّن على محمّد علي بل كان مُنصِفاً في عرضه لأعماله، فذكر ما له وما عليه وهذه هي شِيَم المؤرِّخ الحقيقي الذي لا يُحابي ولا ينحاز إلى أحد مهما عَظُم نفوذه. وربما لو عاش الجبرتي وشاهد الطور الأخير من حُكم محمّد علي لتغيّر موقفه تجاهه وهو يشاهد جهوده العمرانية الواسعة.