العالم هذا الأسبوع!!
رؤية العالم العربيّ هذا الأسبوع تثير تساؤلاتٍ عميقةً في وجدان كلّ الحريصين على هذه الأمّة، وتؤشّر أنّ أساليب العمل المتبعة منذ عقود لم تعد صالحة أبداً، وقد وصلت إلى طريق مسدود، ولا بدّ من إعادة النظر بها واجتراح أساليب تحاكي قصص النجاح التي حقّقها الآخرون وتواجه الواقع الصعب بعزيمة وصراحة وصدق.
قرأت خبراً لا أعلم مدى دقته، وهو أنّ الاتحاد العام التونسي للشغل التقى رئيس الحكومة لمدة ثلاث دقائق ولم يؤدِّ الاجتماع إلى أيّ نتائج؟! وسواء أكان الخبر صحيحاً أم غير صحيح، فقد وجدت فيه تعبيراً عن واقع حال الحوار في العالم العربيّ، الذي غالباً ما يتوقع التوصل إلى نتائج خلال دقائق أو ساعات، بينما هو في الواقع يحتاج إلى أشهر وسنوات، وربما إلى حوار مستدام لا ينقطع أبداً.
فإذا ما تعمقنا بكلّ مظاهر الأزمات التي تضرب مختلف أوجه الحياة العربيّة في مختلف أقطارها، فإننا نجد أنّ السبب الجوهري هو غياب الحوار عن المسائل المطروحة، ومحاولة أطراف متعددين فرض رؤيتهم من دون التحاور أو التنسيق أو الاشتراك مع الآخر في سبل الوصول إلى الأهداف المشتركة.
والافتقار إلى الحوار في جوهره يعني أنّ العقليّة القبلية ما زالت سائدة، وأنّ كلّ قبيلة تريد أن تفرض قواعدها وأساليب عملها على القبائل الأخرى بالقوة، وهذا يعني أيضاً أنّ الدول لم تتشكّل بعد وفق الأسس العلميّة والتاريخيّة التي تُبنى عليها الدول عادةً.
وإذا ما وضعنا الحال في أيّ بلد عربيّ تحت المجهر، وفي هذه البلدان مجتمعة، فإننا نجد أنّ آليات العمل التي توصل إلى توحيد الرؤى، وفي النهاية إلى منظور وطني شامل، غير موجودة أصلاً.
ومن السهل إجراء مقارنات بالدول التي تتخذ الحوار منهجاً وأسلوب عمل لنكتشف حجم الخلل الذي يعتري بلداننا.
فمع أنّ البرلمان البريطاني قد صوّت ضد اتفاق البريكست، الأمر الذي يعني أنّ بريطانيا قد تخرج من الاتحاد الأوربي من دون اتفاق، فقد بادرت كلّ دولة على حدة إلى وضع أسس ومعايير لمعالجة هذا الموضوع إذا ما وقع.
أي إنّ الدول بادرت إلى حواراتها الداخليّة ووضع الأسس لمعالجة هذا الأمر قبل وقوعه بأشهر، كي لا يتعرض مواطنو بلدانها ومواطنو البلدان الأخرى لهزّات نتيجة أزمة سياسية.
كما أنّ بعض هذه البلدان تنخرط اليوم في حوار مقاطعة القمة، التي دعا إليها ترامب في وارسو ضد إيران، وكانت هذه الدول، أو بعضها، قد رفضت اتباع خطوات الولايات المتحدة في التخلي عن الاتفاق النووي الإيراني. أيّ إنّ الحوار جارٍ ومستمر من أجل التوصل إلى قرارات تخدم مصلحة البلاد والعباد.
أمّا نحن وفي عالمنا العربيّ، فيكاد الحوار يقتصر على التصريحات الإعلامية التي لا تؤدي إلى أي مكان ولا توصل إلى أيّ نتائج تذكر.
وسواء أخذنا مثالاً واقع الحال في عدد من الدول العربيّة، أم ركزنا المجهر على ما كان يراد له أن يكون قمة اقتصادية في بيروت، وما آلت إليه في النتيجة، وهو اجتماع لبعض وزراء الخارجية، نجد أنّ الحوار حتى على هذا المستوى يكاد يكون معدوماً.
ويمكن اكتشاف ذلك حتى من خلال التصريحات التي ظهرت على الشاشات، والتي عادة ما تكون محسوبة لعدم كشف عمق الخلافات في قاعة الاجتماعات المغلقة.
إنّ أحد الأجوبة عن سؤال قد عبّر من حيث لا يدري، ربما، عن سبب هذا التشتت في المواقف ألا، وهو التشتت في المرجعيات، والذي يعني أنّ معظم هذه الدول لا تمتلك قرارها، وأنّها تلتزم بما يُملى عليها، ولذلك لا جدوى من الحوار مع من لا يمتلكون قرارهم، وليسوا أسياد كلمتهم.
في هذا الأسبوع بالذات، يلتقي وزيرا خارجية ألمانيا وروسيا في موسكو ويبحثان قضايا إقليمية ودولية وثنائية، طبعاً، كما ويلتقي ممثل كوريا الشمالية مع وزير الخارجية الأميركي في تمهيد لقمة مقبلة بين الرئيسين الأميركي والكوري الشمالي، مع التذكير بأنّ إجراءات توحيد شبه الجزيرة الكورية قد بدأت على مستويات متعددة. ومن نافل القول أنّ العلاقات الروسية الصينية تسير باطّراد وعلى مختلف المستويات.
وفي هذا الأسبوع بالذات صدر التقرير الاستراتيجي الإسرائيلي، الذي يحدّد العلاقة مع الفلسطينيين والتوجهات مع العرب السائرين في مسار التطبيع مع هذا الكيان، الذين استبدلوا العدو الصهيوني الذي يحتلّ الأرض العربيّة بعدوّ وهمي يمدّ إليهم اليد، ويدعو إلى الحوار وإلى العيش المشترك وعلاقات الجيرة والصداقة.
في الوقت الذي تعمل أيدٍ خفية من أجل تقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ في كلّ أقطارنا العربيّة، يُصدر العدو الإسرائيلي رؤية استراتيجية للسيطرة ليس على فلسطين وحسب، وإنّما أيضاً للهيمنة على الإقليم بوسائل حديثة غير معهودة سابقاً، تماماً كما يهوّدون القدس من خلال الاقتصاد وسدّ منافذ العيش أمام الفلسطينيين، إلّا من نافذة التطبيع والعمل مع من يحتلّ أرضهم، ويمتلك لقمة عيشهم الوحيدة.
في هذا الأسبوع وفي نظرة معمّقة لما يجري على كلّ الأرض العربيّة من المحيط إلى الخليج يتساءل المرء هل نالت الدول العربيّة استقلالها فعلاً في التواريخ التي تحتفل بها كلّ عام، أم أنّ الدرب المؤدي إلى الاستقلال الفعلي ما زال طويلاً وشائكاً؟ وهل الاستقلال يتحقّق بمجرد جلاء القوات الأجنبيّة عن الأرض، أم أنّه مشروط باستقلال الإرادة والفكر والتّوجه والأهداف؟ وهل يمتلك العرب كلّ الوقت اللازم للوصول إلى أهدافهم، أم أنّ الوقت يداهمهم من خلال المخططات التي ينتجها، ويعمل على تنفيذها خصومهم، وهم في غفلة من الأمر سائرون، وهل يستفيقون يوماً ليجدوا أنّ الوقت قد تأخّر، وأنّه أصبح من المتعذّر عليهم حتى مواصلة المسير؟ إذا كان أعداء العرب يدمرون الآثار العربيّة في مدن فلسطين وقراها، كما يدمّرون صنعاء القديمة والآثار والحضارة العربيّة في اليمن، وكما استهدفوا أعرق المدن التاريخية في العراق وسوريا وليبيا، فهل هذا يحدث بالصدفة، أم أنّه المقدّمات التي لا بدّ منها كي يتمكّن الأعداء من تنفيذ رؤيتهم الاستراتيجية، ليس في فلسطين فقط، وإنّما في أكبر بقعة ممكنة من الأرض العربيّة أيضاً.
وإذا ما رأى القارئ أنّ هذا ضرب من الخيال، فليتذكّر أنّ مؤتمر بازل الذي عقده الصهاينة عام 1893م قد ركّز على ضرورة السيطرة على المال والإعلام قبل قرن من إدراك الآخرين أهميّة المال والإعلام في صياغة السياسات الدولية.
فهل يشهد جيلنا اليوم ما يُعدّ لهذا القرن وربما لقرن مقبل أيضاً، بينما يغرق العرب في خلافات قبلية تذهب بريحهم جميعاً إذا ما استمروا على هذا النهج، وإذا ما تجاهلوا أسس وآليات عمل بناء الدول التي أوصلت الآخرين إلى أوج قوتهم وقدرتهم على إدارة البلدان.
رؤية العالم العربيّ هذا الأسبوع تثير تساؤلاتٍ عميقةً في وجدان كلّ الحريصين على هذه الأمّة، وتؤشّر أنّ أساليب العمل المتبعة منذ عقود لم تعد صالحة أبداً، وقد وصلت إلى طريق مسدود، ولا بدّ من إعادة النظر بها واجتراح أساليب تحاكي قصص النجاح التي حقّقها الآخرون وتواجه الواقع الصعب بعزيمة وصراحة وصدق.