الأبعاد الإقليمية للأزمات في السودان وليبيا
يسعى النظام التركي منذ صعوده لحكم تركيا إلى قيادة العالم العربي ولأن هناك صراعاً تاريخياً بين القومية التركية والقومية العربية.
اعتمد النظام التركي على الإسلام السياسي مُمثّلاً في جماعة الإخوان المسلمين لإختراق الدول العربية وإغراء شعوبها بحلم إعادة الخلافة الإسلامية من جديد حتى يتمكّن النظام التركي من قيادة العالم العربي. وبدأ الهدف التركي يتحقَّق عندما وصلت جماعة الإخوان المسلمين للحكم في مصر، فمصر أكبر دولة عربية وإذا سيطرت تركيا عليها ستتمكَّن من استخدامها كقاعدةٍ لإسقاط جميع الدول المُعادية للإخوان المسلمين مثل سوريا على سبيل المثال لا الحَصْر، ولكن أحلام النظام التركي فشلت لسببين. السبب الأول قيام الجيش المصري بعَزْلِ الإخوان من حُكم مصر بعد أن حاولوا توريط الجيش في دعم الإرهابيين داخل سوريا، والسبب الثاني صمود الدولة السورية وفشل النظام التركي في الإتيان بنظامٍ تابع له في سوريا، و نتيجة لتلك التطوّرات تمخَّض صراع على النفوذ في المنطقة بين مصر و تركيا، كل منهما يمتلك أوراقَ قوَّة ويسعى إلى مساومة الطرف الآخر بها، فمَن ينتصر في هذا الصراع؟
عملت تركيا على جعل نظام الحُكم في السودان تابعاً لها ولمشروعها ضد مصر، لأن السودان له حدود مباشرة مع مصر وله تأثير كبير على أمن مصر القومي من خلال جواره الجغرافي المباشر معها، ودوره في أزمة حلايب وشلاتين وقُدرته على التأثير في ملف سدّ النهضة الذي يُهدِّد الأمن القومي المائي لمصر. فتركيا لفترةٍ ما استخدمت ورقة العلاقة مع السودان كورقةِ ضغط على الحكومة المصرية، ولكن التطوّرات التي حدثت مؤخّراً في السودان ورحيل السيّد عمر البشير عن سدّة الحُكم، غيَّرت موازين القوى في الصراع المصري التركي داخل السودان. لعلَّ أهمها أفول نجم الإتفاق التركي السوداني حول جزيرة سواكن، التي أرادت تركيا من خلال السيطرة عليها إيجاد موطىء قدم لها على البحر الأحمر والتحكّم في النفط القادِم من الخليج إلى الأسواق الأوروبية، فضلاً عن إعادة ترميم الآثار العثمانية داخل السودان، وهو أمر له رمزيّة كبيرة لتركيا وأهدافها في الوطن العربي. ومن المُرجَّح بعد رحيل عمر البشير ومجيء المجلس العسكري الذي حصل على مُساعداتٍ من السعودية والإمارات بقيمة ثلاثة مليارات دولار وقدَّم رئيسه التحيّة العسكرية للسيّد عبد الفتاح السيسي في القاهرة. من المُستبعَد أن يظلّ هذا المجلس مُنخَرِطاً في تنفيذ بنود الإتفاق بين السودان وتركيا حول جزيرة سواكن وهذا إفشال مصري لورقة الضغط السودانية من تركيا عليها.
وفي الساحة الليبية هناك صراع مصري تركي أيضاً، فتركيا تريد استخدام ليبيا كورقةِ ضغطٍ على مصر من خلال امتلاك ليبيا الجوار الجغرافي المباشر مع مصر، وأدوات تركيا لتحقيق هذا الهدف هي دعم حكومة الوفاق في ليبيا وإعادة توظيف التكفيريين المهزومين في سوريا والعراق ضد مصر عبر الحدود الليبية المصرية، وهذه كلها أوراق ضغط تركيّة تريد تركيا استخدامها لتُساوِم مصر على دورٍ للإخوان المسلمين في النظام السياسي المصر.، وتلك الأفكار شبيهة بأفكار تركيا في سوريا أيضاً، وكَرَدِّ فعلٍ طبيعي عملت مصر على تجريد تركيا من ورقة الضغط هذه، فدعمت قوات المشير حفتر من أجل تقليص المساحة الجغرافية التي تسيطر عليها حكومة الوفاق، ونجحت مصر بشكلٍ جزئي في إبعاد سيطرة مُسلّحين مناوئين لها على الحدود المصرية الليبية، ومن ثم عملت على دعم قوات المشير حفتر للسيطرة على كامل الجغرافيا الليبية. ومن هنا جاءت معركة طرابلس التي فشل حفتر في السيطرة عليها، ويبدو أن المعركة حول طرابلس ستكون طويلة واستنزافية لجميع الأطراف. وهنا يجب ذِكر ملاحظة أنه بعد عدم استطاعة المشير حفتر السيطرة على طرابلس ربما تعمل مصر على جعل طرابلس فخّاً لإستنزاف خصومها الإقليميين تركيا وقطر عسكرياً وإقتصادياً، فطول مدّة الصراع العسكري في ليبيا يُضرّ تركيا وقطر ولا يُضرّ مصر، لأن مصر لا تقدِّم دعماً مباشراً من سلاحها أو خزائنها لقوات حفتر، فمَن يقوم بهذا الدور الإمارات والسعودية بعكس تركيا المُنخَرِطة بشكلٍ مباشرٍ في الصراع الليبي مما سيستنزفها في حال طالت مدّة الصراع.
ومن المُلاحَظ حتى الآن في الصراع التركي المصري أن تركيا تُهدِّد الأمن القومي المصري بشكلٍ مباشرٍ وتكتفي مصر بالدفاع عن نفسها وتجريد تركيا من الاستفادة من تلك التهديدات. و هذا لا يعني عدم امتلاك مصر أوراق ضغط على تركي. فمصر قادرة على استخدام ورقة الكرد وورقة علوييّ سوريا وفتح خطوط تواصُل مع الأحزاب المُعارِضة للنظام التركي في الداخل مثل حزب الشعب الجمهوري، ومصر لن تكون مُتسرِّعة في استخدام تلك الأوراق. فالنظام التركي يتخبَّط، فخسر مدينة إسطنبول وفشل في جعل أميركا تتخلَّى عن الكرد في شرق سوريا وسيطرة الكرد على جزء من سوريا تهديد مباشر لوحدة تركيا الجغرافية. فضلاً عن أن مصر قادرة على خوض صِراعٍ استنزافي طويل الأمد مع تركيا عبر المال السعودي و الإماراتي، وتوظيف مصر الصراع على ما يُسمَّى الزعامة السنّية بين السعودية والإمارات من جانب وتركيا من جانبٍ آخر في صالحها، فالمُرجَّح في الصراع المصري التركي في الفترة القادمة أن مصر ستظل مُحتفظة بأوراق الضغط التي تمتلكها على تركيا، إلا إذا عملت تركيا على نَهْبِ حصّة مصر من غاز المتوسّط، فربما في تلك الحال تبدأ مصر في الردّ في خواصِر تركيا الرخوة.