البرلمان العراقي مُقدّمات ونتائج
إن التجربة الديمقراطية في العراق والممارسة السياسية ذات الخمسة عشر ربيعاً ، لم تعد قادرة على إتمام مسيرها وتأصيل جذورها في ظلّ ما تشهده من صراعات شخصية و حزبية حول المناصب والامتيازات ، يقابلها ضعف و انهيار عام في جميع مفاصل الدولة وعلى وجه الخصوص القطاعات الخَدمية منها.
مما لا شك فيه أن الممارسة الديمقراطية تُعدّ من المُرتكزات الأساسية في بناء مُجتمعات وأنظمة مُتقدّمة ، كونها ترتكز على إرادة الشعوب المحضة في اختيار ممثليهم وفق قناعاتهم الشخصية بكل أريحيّة وسلاسة..
مما لا شك فيه أيضاً أن كل عمل أو فعل أو ممارسة بحاجة إلى جملة مُقدّمات وعوامِل مُساعِدة لإتمامه ، ومن الطبيعي أن نجاح أية ممارسة أو عمل ما مرهون بطبيعة الحال بمدى رصانة وصحّة مُقدّماته.
إن التجربة الديمقراطية في العراق والممارسة السياسية ذات الخمسة عشر ربيعاً ، لم تعد قادرة على إتمام مسيرها وتأصيل جذورها في ظلّ ما تشهده من صراعات شخصية و حزبية حول المناصب والامتيازات ، يقابلها ضعف و انهيار عام في جميع مفاصل الدولة وعلى وجه الخصوص القطاعات الخَدمية منها ، ما أدَّى بطبيعة الحال فقدانها بريقها ولمعانها لدى أغلب أبناء الشعب العراقي ، مُخلّفاً موجة عالية من الامتعاض الجماهيري والرفض الشعبي ، فضلاً عن انهيار الثقة بعموم الطبقة السياسية الحاكِمة.. وقد تجلّى ذلك من خلال التجربة الانتخابية السابقة وما شهدته من تراجعٍ كبيرٍ وتردٍّ خطير بنسبة المشاركين في الانتخابات البرلمانية ، وهو مؤشّر واضح ورسالة بيّنة على ضمور العلاقة واضمحلال الثقة الجماهيرية بالطبقة السياسية ، بل في العملية السياسية برمّتها. إن المُقدّمات الرخوة التي ابتنت عليها العملية السياسية في العراق أدّت إلى نتائج كارثية وتراجع ملحوظ على كافة المستويات والأصعدة ، وذلك لعدم إدراكها حقيقة الأسباب التي تقف وراء هذا التراجُع الخطير ، وعلى رأسها غياب التخطيط و القراءة الواقعية لمُجريات الإحداث السياسية ، بالإضافة إلى افتقارها الانسجام بين سلطاتها الثلاث على وجه الخصوص السلطتين التشريعية والتنفيذية.
إن طبيعة النظام البرلماني وآلياته المُتبّعة باتّخاذ القرارات والإجراءات التشريعية؛ هي ذاتها تُعدّ إحدى أهم العقبات وأشدّها في تقدّم العملية السياسية ، فالتمثيل البرلماني العادِل يختلف كثيراً عن التمثيل الفاعِل ، بمعنى أن الأول (التمثيل العادِل) الذي تشترك فيه جميع مُكوّنات الشعب العراقي بصغيرها وكبيرها ، بمختلف القوميات و الأديان والتوجّهات؛ يُعتَبر تمثيلاً نوعياً بامتياز ، كونه لم يستثن أحداً من فئات الشعب العراقي من دون إن يكون له دور في صناعة القرار السياسي والمشاركة الحكومية ، إلا أنه في ذات الوقت ونتيجة لتنوّعه واختلاف مشاربه ومتبنّياته و إديولوجياته ، سيؤدّي بطبيعة الحال إلى الإصابة بمُتلازمة "جيلن باري" وهو ( مرض عصبي حاد يُصيب الأطراف من جذورها )! نتيجة للتنوّع المُفرَط في مصادر القرار واختلاف مشاربه وتوجّهاته ، حيث بلغ عدد الأحزاب المُشارِكة في الانتخابات الأخيرة أكثر من (120) حزباً ، بواقع يزيد عن (6000) مرشّح لثلاث مائة وتسعة وعشرين مقعداً برلمانياً ، ما أنتج ولادة كتل صغيرة ُمتناثِرة غير مُنسجمة في الرؤية والقرار ، بالتالي ستكون الإجراءات مُعطّلة مُتناقِضة تبعاً لاختلاف أصول المنابع و أمزجة مصادره كما هي عليه الحال.
إما الأمر الآخر هو أن يكون البرلمان فاعِلاً ، بمعنى إن تتشكّل أطرافه من قوى كبيرة لها ثقل جماهيري واسع ، موحَّدة في الرؤية و القرار ، تخوض غِمار العمل السياسي التشريعي والرقابي وفق مبدأ الأغلبية الوطنية ببرنامجٍ واضحٍ وفق سياقات مؤسّساتية ونظام داخلي ومُحدّدات مُتّفق عليها ، وهو ما سعت إليه بعض الكتل السياسية في تشكيل تحالفاتها الكبيرة مؤخراً ، إلا أنه ورغم إيجابيته ورصانة مُقدّماته وآلياته لم يُكتَب له النجاح أيضاً في هذه الدورة و سابقاتها ، بدلالة المُحصّلة الواقعية لما نشاهده من انقساماتٍ وتناحُرٍ و تشظٍ وتفرّدٍ داخل التحالف الواحد! نتيجة لافتقاره البناءات الصحيحة وغياب المعايير الدقيقة في نُظًم التحالفات ، فضلاً عن أخلاقيات العمل السياسي التي تُحتّم على الأطراف المُتحالفة الذوبان في تحالفاتها وربط مصائرها ببعضها ، تحت ظلّ غطاء الوطنية والمصلحة العليا للبلد.. من هنا سنُدرِك ومن خلال التجارب الواقعية المُجرّدة من الميول والأجندات ، إن كِلا المنحيين فاقد أهلية التحقّق وسالب بانتفاء الموضوع.
ربما السبب من وراء ذلك يعود إلى طبيعة النظام البرلماني وآلياته في إدارة العملية السياسية في العراق ، فرغم حَداثة نظام الحُكم البرلماني ونجاحه في العديد من دول العالم ، إلا أنه ليس بالضرورة أن يكون مُلائماً لطبيعة الأرضية السياسية و المُكوّناتية في العراق.