الثورة الرقمية وقبضة المراقبة الأميركية
هي ثورة رقمية تشبه تلك التي أحدثها النفط. إلآّ أنه على عكس البترول، البيانات الضخمة مادة خام لا تنضب. ليست ملكاً لأحد أو بالأحرى لم تعد ملك أصحابها. جُرّدوا منها وسُرقت بصماتهم الرقمية... فكل ما نستخدمه من وسائل التواصل خاضع لرقابة مستمرة. هذه الرقابة التي تقوم بها أجهزة الاستخبارات الأميركية وتنصتها على العالم يأتي بذريعة الأمن القومي الأميركي ومكافحة الإرهاب.
الفرار من قبضة المراقبة الأميركية أمر شبه مستحيل. فما نستخدمه من وسائل التواصل خاضع لرقابة مستمرة. كاميرات الهواتف وهي مطفأة تخضع لهذه الرقابة. كل هذه الرقابة التي تقوم بها أجهزة الاستخبارات الأميركية وتنصتها على العالم يأتي بذريعة الأمن القومي الأميركي ومكافحة الإرهاب. ليست أميركا وحدها من يقوم بذلك. أيضاً الأوروبيون وسعوا في السنوات الأخيرة حدود رقابتهم.
في عصر البيانات سيجد المواطن نفسه في موقف صعب. سيكون انساناً عارياً لا يملك القدرة على التفلت من الرقابة. أصبحت البيانات الضخمة أو ما يعرف بالانجليزية بالـ Big Data وسيلة شائعة لملاحقة الناشطين وخصوم أميركا.
سوق البيانات الضخمة يعد قطاعاً اقتصادياً شديد التركيز في أيدي الأقلية، مثل غوغل وآبل ومايكروسوفت وأمازون.
في نهاية المطاف تسيطر الـ "سي آي إي" على هذا السوق. قامت هذه الوكالة بتفويض أمثال بيل غايت ومارك زوكربرغ لتخزين المعلومات الرقمية. وبالتالي أوجد العالم الرقمي أوليغارشية جديدة.
إنّ جمع البيانات ومعالجتها هي التي ستتحكم بالقرن الـ22 القادم. في تاريخ البشرية لم يتم التمكن من الوصول إلى مثل هذا الإنتاج من المعلومات. هذه الثورة الرقمية تشبه تلك التي أحدثها النفط. إلآّ أنه على عكس البترول، تعتبر البيانات مادة خام لا تنضب. تنبع بشكل دائم من خطوط الأنابيب الرقمية. هي ليست ملكاً لأحد أو بالأحرى لم تعد ملك أصحابها. جُرّدوا منها وسُرقت بصماتهم الرقمية. وهكذا بنت البيانات الضخمة قوتها على حساب الأفراد.
يشير مارك دوغان وكريستوف لابيه في كتابهما "الإنسان العاري" إلى أنّ كل دقيقة يتم تداول نحو 300 ألف تغريدة و15 مليون رسالة و204 مليون رسالة إلكترونية على كوكب الأرض، إضافة إلى البحث عن 2 مليون كلمة على محرك البحث غوغل.
منذ عام 2012، ما تنتجه البشرية من معلومات خلال يومين، لم تنتجه منذ اختراع الكتابة قبل 5 آلاف وثلاثمئة عام. 98 % من هذه المعلومات يتم تسجيلها بشكل رقمي. هذه المعلومات التي ينتجها الانسان مجاناً تقوم الشركات الخاصة بتجميعها. آبل ومايكروسوف وغوغل وفايسبوك تجمع اليوم 80% من المعلومات الشخصية.
بعد تسريب الآلاف من الوثائق البالغة السرية، عام 2013، على يد إدوارد سنودن، المتعاقد السابق مع وكالة الأمن القومي الأميركية، سارعت الإدارة إلى تبرير تنصتها على العالم. في محاولاتها لشرعنة جمع البيانات، شكَلت إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما مجموعة مراجعة خاصة. كما أعادت تنشيط لجنة للإشراف على الحفاظ على الخصوصية، وأصدرت أمراً تنفيذياً يتعهد باحترام حقوق الخصوصية للأجانب من خارج الولايات المتحدة.
إلاّ أنّ ذلك لا يلغي التداخل بين وكالات الاستخبارات والبيانات الضخمة. بات هذا الأمر واقع لا مفر منه. كشف سنودن أنّ واشنطن كانت قادرة على نقل البيانات من دول أجنبية، لأنه تم تخزين هذه المعلومات على خوادم لشركات خاصة أميركية.
صحيفة "در شبيغل" الالمانية ذكرت في هذا الإطار أن الاستخبارات الأميركية لديها حرية الوصول إلى المعلومات الموجودة في هواتف آيفون وهي الهواتف التي توصف بأنها محصنة ضد الاختراق وأمنة في الحفاظ على الخصوصية.
تحت ذريعة تعقب زعيم تنظيم القاعدة اسامة بن لادن، قامت الاستخبارات الأميركية بتخزين جميع الصور التي يتم تداولها على الانترنت. المراقبة لم تقتصر على الولوج إلى الشبكات الإرهابية وإنما أيضاً الصحافيين ومعاقبتهم في بعض الأحيان. فقد تم وضع صحافيون يعملون في الموقع الأميركي CENT على القائمة السوداء لمدة عام من قبل غوغل لأنهم نشروا معلومات شخصية عن "ايريك شميدت" الرئيس التنفيذي السابق لشركة غوغل.
عشاء الملوك
ليس دونالد ترامب الرئيس الوحيد الذي استخدم البيانات خدمة لحملته الانتخابية، فالشركة التي اهتمت بالتسويق الرقمي لحملة ترامب هي نفسها التي خاضت حملة انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. سبقه إلى ذلك الرئيس السابق باراك أوباما خلال حملته الانتخابية الاولى والثانية.
عام 2011، اجتمع عمالقة الانترنت بدعوة من أوباما للعشاء معه في البيت الأبيض. خلال اللقاء الذي أطلقت عليه الصحافة الأميركية "عشاء الملوك"، روّج أوباما لفكرة تعيين ايرك شمدت كوزير للخارجية في حال تعيينه مرة أخرى رئيساً للبلاد. حينها، قال أوباما "نحن نمتلك الانترنت"، مشيراً إلى أنّ القوة التي ترتكزعليها بلاده تقوم على عمالقة الرقمنة. فقد أتاحت الانترنت للولايات المتحدة فرصة خيالية ليس فقط للحفاظ على دورها القيادي وإنما لتعزيز هذا الدور. وظف أوباما المعلومات وقام بتحليلها خدمة لحملته الانتخابية عام 2008. في دورته الثانية، تجاوزت الحملة الاستخدام الكلاسيكي لقاعدة البيانات الخاصة بالناخبين، والتي تم تصنيفها وفقًا للتقسيم الفرعي الكلاسيكي في الفئات الاجتماعية والديموغرافية. بفضل الاستخدام الحاد للمعلومات، تمكن فريق أوباما من إجراء تقييمات على أساس التفضيلات والعادات المعبّرعنها عبر الإنترنت لكل ناخب.
وكانت إدارة ترامب أشارت إلى أنّ الميزانية المقترحة للأمن الالكتروني الأميركي لعام 2020 نحو 11 مليار دولار.
ليست أميركا وحدها من يقوم بمراقبة المستخدمين. تجد اوروبا أن ما تقوم به واشنطن نموذج جدير أن يحتذى به وأمر مرتبط بالأمن القومي، حتى وإن كان ذلك على حساب الاستقلالية وخصوصية الأفراد.
خلال ولاية فرنسوا هولاند، عملت إدارته على تعزيز فكرة "المراقبة البشرية" والتسلل حتى أصبح كل فشل تتعرض له الحكومة ذريعة لتوسيع دائرة المراقبة. وبالتالي قامت الإدارة الفرنسية بتجميع قدر كبير من المعلومات على حساب نوعية هذه المعلومات.
هو عصر البيانات الضخمة. أرقام يتم تخزينها في مستودعات رقمية تحفظ أدق تفاصيل حياتنا. بيانات من أجل الحصول عليها تكرس حكومات الدول الكبرى ميزانيات ضخمة.