ثورة السودان في مواجهة المجلس العسكري

الفريق البرهان ونائبه حميدتي يقودان البلاد إلى حال من الفوضى وعدم الاستقرار، والتأسيس لنظام عسكري قمعي ديكتاتوري، حيث كان واضحاً أن المجلس العسكري السوداني ومنذ اليوم الأول لوصوله إلى السلطة عبر انقلاب عسكري، لم يكّن أيّ ودّ للحراك الشعبي السوداني، ويتحيّن الفُرَص لوقف الاعتصامات.

الثورة الشعبية السلمية في السودان، والتي بدأت منذ كانون الأول/ديسمبر 2018 في الشوارع وفي كل مدن السودان للمطالبة بحقوقها السياسية والإقتصادية والثقافية هي موضع إجماع شعبي الآن، والمتظاهرون مازالوا واقفين بثبات من أجل التغيير في السودان، وهم الذين انطلقوا من أرضية الفساد والجوع والحرمان في مواجهة نظام ديكتاتوري انفصل عن الشعب وطموحاته المشروعة في الحرية والديمقراطية الحقيقية والعيش الكريم، حيث أن شعارات الثورة التي ردّدها الشارع في كل مدن السودان، حدّدت أهدافها ومطالبها بالحرية والسلام والعدالة، وصولاً إلى الشعب يريد إسقاط النظام، وذلك بإزالة النظام الحاكم بكل مكوّناته وتفاصيله.

لكن للأسف عندما لوّح الجيش بأنه تواصل مع قوى سياسية لم يسمّها لعزل الرئيس البشير، بدأت بوادر الانقسام داخل الثوار والمتظاهرين (تجمّع المهنيين) الذي قاد الاحتجاجات، حيث أن أنصار (الحركة الإسلامية) اتهموا (الحزب الشيوعي السوداني) بالتواطؤ مع الجيش، بينما نفى الشيوعيون علاقة حزبهم بأية تحرّكات عسكرية لتسلّم السلطة، وهي الخطة التي دفعت الجيش للتمهيد للبقاء في الحُكم، وذلك عبر رفضه تسمية شخصية لرئاسة الحكومة داعياً القوى الثورية للاتفاق، وهي المهمة الصعبة والباب القديم الذي بدأ منه تاريخ الانقلابات في السودان.

وهنا بدأت تتعرّض آمال التحوّل الديمقراطي في السودان بعد ثلاثة عقود من الحُكم الاستبدادي إلى العقبات الجِسام، وذلك نظراً إلى أن السودان في حاجة ماسة إلى الإصلاح والتجديد، حيث كانت (قوى الحرية والتغيير) والمجلس العسكري، قد توصلا منتصف الشهر الماضي لاتفاق أوليّ على هياكل الحُكم، والذي يتمثّل في تشكيل مجلس سيادي يضمّ مدنيين وعسكريين، ومجلس وزراء بصلاحيات تنفيذية، ومجلس تشريعي تكون فيه أغلبية الثلثين لقوى الحرية والتغيير، لكن الاختلاف الحالي يكمن في تشبّث العسكريين برئاسة المجلس السيادي، وأن يكون بأغلبية عسكرية، حيث اقترحت (قوى الحرية والتغيير) أن يضمّ المجلس ثمانية أعضاء من المدنيين وسبعة من العسكريين، لكن أصرّ المجلس العسكري على أن يكون سبعة من العسكريين وثلاثة من المدنيين، واللافت أن الجيش اقترح مراراً إجراء انتخابات مُبكرة في حال وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود.

كما أن الخلاف مؤخراً زاد تعقيداً بعد أن قام قائد قوات الدعم السريع، الفريق أول حميدتي، بقيادة قواته لمحاولة فضّ الاعتصام الذي نظّمه المحتجون أمام مقر القيادة العامة في الخرطوم، والتعدّي بالرصاص الحيّ على المُعتصمين، وهي انتهاكات ارتكبها جهاز الأمن والمخابرات وقوات الشرطة وكتائب الظلّ وغيرها، كما أنها مخالفة للدستور والقوانين السودانية والدولية ومواثيق حقوق الإنسان الدولية والإقليمية، إضافة إلى إنها مُجافية لكل الأعراف والتقاليد السودانية التي تحرِّم الانتهاك والتعدّي على حُرمات المساكن وضرب الأطفال والشيوخ والنساء.

ورداً على ذلك أعلن الممثلون بقوى إعلان الحرية والتغيير وتجمّع المهنيين السودانيين عن إضراب عام على مستوى البلاد  للضغط على الجيش، كما وشهدت الأسابيع الماضية مفاوضات بين الجيش والمُحتجين، لكنها لم تتوصّل إلى أيّ اتفاق، حيث يعتقد المجلس العسكري أن (قوى الحرية والتغيير) تحاول إبعاد الجيش تماماً عن المعادلة، وكأنه لم يشارك في الثورة بالانحياز والحماية، وهو ما جعل القادة العسكريين يعيدون التفكير في مسألة تسليم السلطة، كما أنهم يدرسون (المجلس العسكري) خياراتهم بالتشاور مع شركائهم في مصر والخليج، وذلك بتسليم الحكومة لقوى أخرى وطنية لا علاقة لها بالإسلاميين أو بقوى الحرية، لكن مازالت هذه المفاوضات تتعثّر مع المعارضة، والتي رأت أن دخول المجلس صراعات المحاور في المنطقة يتنافى مع طبيعة وظيفته في تأمين الانتقال السلمي للسلطة، كما أن حميدتي جنّد مؤخراً مزيداً من قبائل شرق السودان للانضمام إلى قواته برعاية سعودية إماراتية، وذلك بهدف المساهمة في إضعاف دور الجيش السوداني باعتباره مركزاً للإسلاميين بحسب وجهة النظر الخليجية.

الفريق البرهان ونائبه حميدتي يقودان البلاد إلى حال من الفوضى وعدم الاستقرار، والتأسيس لنظام عسكري قمعي ديكتاتوري، حيث كان واضحاً أن المجلس العسكري السوداني ومنذ اليوم الأول لوصوله إلى السلطة عبر انقلاب عسكري، لم يكّن أيّ ودّ للحراك الشعبي السوداني، ويتحيّن الفُرَص لوقف الاعتصامات، كما وإن انخراط المجلس العسكري في مفاوضات مع قادة حركة الاحتجاج طوال الأسابيع الماضية كان في إطار خطة خادِعة لكسب الوقت، وترتيب أوضاعه المحلية والإقليمية، لأنه لم يَردْ مطلقاً تسليم السلطة إلى هيئة حُكم مدنية.

كما أن الحقيقة الدامِغة التي يحاول الكثير من المتابعين للشأن السوداني تغافلها، جهلاً أو عَمْداً، أن هناك صراعاً مُحتدماً بين فريقين خارجيين على السودان، ويتدخّلان بقوّة في الحراك الشعبي الذي انطلق منذ أربعة أشهر، الأول يضمّ كلاً من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومصر، والثاني تتزعمه كل من تركيا ودولة قطر، إلا أن الفريق البرهان أعلن منذ اليوم الأول وقوفه في الخندق السعودي الإماراتي المدعوم مصرياً، حيث أن المجلس العسكري يريد سرقة الثورة والاستيلاء على السلطة، ورفض تسليمها إلى حكومة مدنية، وإبقاء الوضع في السودان على حاله، مع تغيير فقط في وجوه القيادات العسكرية.

الورقة الأخيرة التي أعلنتها مؤخراً قوى الحرية والتغيير، وتجمّع المهنيين، ونداء السودان، وقوى الإجماع، والتجمّع الاتحادي، هي الإضراب العام لمدة يومين، والذي أثار انقساماً داخل القوى السياسية التي يمثلها، كما أثار غضب المجلس العسكري الذي هدّد باتخاذ إجراءات عقابية بحق المشاركين فيه، حيث أن هدفه كان هو إجبار المجلس العسكري على تقديم مزيد من التنازلات والقبول برئاسة المجلس السيادي والمشاركة به بأغلبية مدنية، وهو ما يتنافى مع سياسة الجيش الذي أعلن غير مرة بأنه شريك في التغيير باعتباره حامي الثورة وصانعها.

هذا وقد يكون العصيان المدني هو قمّة التصعيد ضد المجلس العسكري، والذي طالما كان السلاح المفضّل للمعارضة ضد البشير، لأنه حتى الآن يتوقف نجاح الثورة على تنفيذ عدّة مطالب أبرزها تصفية النظام السابق، وتشكيل حكومة مدنية وهيئة تشريعية، ومجلس رئاسي بأغلبية مدنية وتمثيل عسكري محدود، إضافة إلى محاربة الفساد، وإصلاح الاقتصاد، وإعادة هيكلة جهاز الأمن القومي.

ما زال الوضع في السودان غير مُحدَّد المعالم، فالاحتجاجات ما زالت مستمرة، والمطالبات بتسليم الحُكم إلى مجلس انتقالي مدني أقوى من أيّ وقتٍ مضى، ولكن من الواضح أن المجلس العسكري ينتهج سياسة تضييع الوقت والتلاعُب بالثوّار ولن يتنازل عن السلطة بسهولة، ويخطّط للبقاء لأطول فترة ممكنة، حيث أن المجلس العسكري الحالي استغلّ الحراك الشعبي لتنفيذ انقلابه والاستيلاء على السلطة، وأقام تحالفات إقليمية ودولية لترتيب أوضاعه، وتثبيت حُكمه الجديد، ويتلكّأ في نقل السلطة إلى حكومة سلطة مدنية كاملة، كما أن تجمّع المهنيين طالب باستمرار الاحتجاجات حتى يتم تسليم السلطة إلى حكومة مدنية وعودة العسكر إلى الثكنات، ‏وأكّد أن الانقلابيين ليسوا أهلاً للتغيير، وهو موقف مسؤول يعكس تخوّفاً من وجود أجندات غير معروفة لقيادة المؤسّسة العسكرية حتى الآن.

تحالف أو توافق الضرورة بين المؤسّستين الشعبية والعسكرية هو فقط الذي جعل المؤسّسة العسكرية السودانية ترضخ للمطالب الشعبية، وتستسلم لمطالبها في التغيير، لكنها بدأت تُماطل في تسليم السلطة، وإقامة دولة مدنية على أسُس ديمقراطية، وتريد أن تنفرد بالقرار في القضايا الاستراتيجية من دون الرجوع لأية مرجعية حراكية أو مدنية، لكن الإصرار على الدولة المدنية الديمقراطية هو البديل الوحيد، والتاريخ يجب ألا يعود إلى الوراء، والمؤسّسة العسكرية يجب أن يكون دورها حماية البلاد وأمنها، لا أن تقودها إلى الفوضى، خاصة وأنها فشلت ولأكثر من ثلاثين عاماً سابقة في ذلك وهي تمتلك السلطة المطلقة.

أخيراً نقول إن المجلس العسكري يجب أن يتحلّى بالحكمة وضبط النفس، ويترك السلطة لمصلحة نظام حُكم ديمقراطي مدني، وأن يتحلّى بالحياد ليس داخل السودان فقط، وإنما في المحيط العربي أيضاً، لأن الانحياز إلى محور ضد الآخر في مرحلة الاستقطاب السياسي الحالي التي تسود المنطقة سوف يؤدّي إلى نتائج كارثية قد لا تُحمَد عقباها.