الأردن بين سندان الأزمة الاقتصادية ومطرقة صفقة القرن
الشعب الأردني شعب واعٍ برغم المُراهنات على تجهيلة وإضطهاده بكل الوسائل السياسية والإقتصادية وحتى الإجتماعية، وعندما تنعدم آفاق التصالُح مع الشعب، سوف تتفاقم المُعضلة السياسية في الأردن، والتي تنعكس في تراكُم خصومة حقيقية بين الشعب ورموزه الوطنية والسلطة التي يحكمها الحرس القديم، والذي مازال مُصمِّماً على استباحة كافة أشكال وجود الشعب، والتخريب المُتعمَّد للاقتصاد الأردني.
يكتسب موقع الأردن الجيوسياسي في المنطقة بُعداً إقليمياً ودولياً، باعتباره الحدّ الفاصِل بين الكيان الصهيوني ودول منابِع النفط من جانب، وكذلك دول الكثافة السكانية من جانبٍ آخر، هذا البُعد الجغرافي حدَّد طبيعة سياسته في المنطقة منذ تأسيسه، والتي طالما لعب دوراً طليعياً في إدارتها، لكن نرى في السنوات الأخيرة تغييب مُتعمَّد للدور الأردني في القضايا الخارجية الإقليمية والدولية، والتي كان يشكِّل الأردن قُطب الرُحى فيها، وذلك بعد فشل سياسته الخارجية في استثمار أوراق قوّته الإقليمية، وانتهاجه سياسة التبعيّة وإصراره على دبلوماسية فاقِدة لذخيرتها، ما ترتّب عن ذلك جبهة داخلية مُنهَكة سياسياً واقتصادياً واجتماعيا.
الأردن اليوم يشهد حالة قلق غير مسبوقة بشأن مستقبله وأمنه وأمانه واستقراره، والمسألة لم تعد تحتمل التسويفات الرسمية، وذلك في بلد ينوء تحت ثقل الديون الخارجية، ومكشوف للعواصف السياسية الإقليمية، حيث بدأت تطرأ على المجتمع الأردني في الآونة الأخيرة تحوّلات نوعية وكميّة، وذلك في ظلّ صَخَب تسارُع الأحداث والمُتغيّرات الإقليمية والدولية، حيث يمثّل الأردن الآن دولة وظيفية بحُكم موقعه الجغرافي، لتنفيذ مصالح الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، في حين يدفع الشعب المُفقّر ثمن هذا الدور، وهو الذي يعيش على مساعدات خارجية مشروطة، وذلك بغياب المشروع الوطني الجامِع والحامِل الاجتماعي الذي يُحقّق المصالح الوطنية.
الأزمة السياسية الاقتصادية الاجتماعية التي تعصف بالأردن عميقة، وأهم أسبابها هو استمرار سيطرة القلّة القليلة على مقاليد الحُكم والقرار، وذلك بتجليّاته المُتنوّعة فساداً وبطالة ومديونية واستحواذاً على الثروات ومحسوبية وترهّل، ما أدّى إلى إهمال المُحافظات وتهميشها من التنمية الاقتصادية المجتمعية، وفُقدان الثقة المُتنامي في قُدرة الدولة على وقف هذا التدهور الحاصل نحو الحافّة، كما أن موجات زحف المُعطّلين عن العمل إلى الديوان الملكي، مُطالبين بوظائف لهم، دليل قوي على فُقدان الثقة في قُدرة الحكومة على اتّخاذ القرارات، وأن القرار أصبح بيد الملك فقط، وذلك بعدما جرى تفريغ مؤسّسات الدولة من مضمونها، والتخلّي عن مُقدّرات الأردن الاستراتيجية من بوتاس وفوسفات وإسمنت لصالح عمليات خَصَخَصَة، خلَت من أدنى معايير الشفافية، واستمرار اعتماد الأردن على القروض والمِنَح الخارجية، ما ضرب استقلالية قراره السياسي والاقتصادي معاً، إضافة إلى الفشل في التعامُل مع "صفقة القرن" وتداعياتها على استقرار البلاد، وخصوصاً استهتار إسرائيل والإدارة الأميركية بالوصاية الهاشمية على القدس، وهو ما وضع النظام في مواجهة الشعب، والتي قد ينتج منها ارتدادات تُهدِّد الاستقرار السياسي والمجتمعي في الأردن.
هذه المعادلة أدّت إلى اختلالاتٍ عميقةٍ في بُنية النظام السياسي والاقتصادي والمُجتمعي، كما أن الشعور بالخُذلان أدّى إلى التصعيد في الخطاب السياسي من الحراكات المُعارِضة، وارتفاع سقف الشعارات خصوصاً من الطبقات الأكثر تضرّراً من انتشار البطالة وارتفاع الأسعار، حتى أصبح يُعبّر عنه بشعاراتٍ تمسّ سلطات الملك وأحياناً شخصه، وذلك بسبب ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، إضافة إلى العمل على تعميق إحساس صانِع القرار بالخطر، ودفعه إلى اتّخاذ قرارات بتغيير النهج السياسي والاقتصادي لتحقيق التماسُك الداخلي في مواجهة التحوّلات الكبرى الحاصلة خارجياً وداخليا.
لكن للأسف ما زالت مُعالجة الأزمة القائِمة تعتمد فقط على المُقاربات المالية، وذلك من خلال توفير وظائف في القطاع العام، وبالتالي الاعتماد على فكرة الدولة الريعيّة التي توفّر بدورها الوظائف في القطاعات الحكومية وفي الجيش والأجهزة الأمنية، وهي لم تقترب بذلك من الحلول الحقيقية، حيث أن معالجة الأزمة البنيوية الاقتصادية الاجتماعية هي الأساس، وذلك مع عدم إمكانية استمرار الدولة الريعيّة بعد انخفاض عائدات الأردن من الخليج، وهبوط قيمة الدينار، والتوقيع على أول اتفاقية مع صندوق النقد الدولي واندماجه في اقتصاد السوق العالمي.
الوضع جدّي ويستدعي حواراً شاملاً وواسعاً للاتفاق على أُسُس برنامج إنقاذ وطني، وذلك للبدء في عملية التغيير، لكن إدارة الأزمة إلى الآن قاصِرة، بل وأحياناً فاشِلة، والحراكات يتمّ احتواؤها من قِبَل نفس الجهات والأدوات ذاتها، والهدف هو التنفيس والتهدئة، وليس المبادرة في وضع الحلول، وذلك وسط استمرار سياسات ضريبية غير عادلة، خصوصاً ضريبة المبيعات، وتسريح الشركات والمصانع أعداداً مُتزايدة من الموظّفين والعمّال، واستمرار الأجهزة الأمنية في استدعاء نُشطاء التواصل الاجتماعي، والمشاركين في الاحتجاجات، للتحقيق والتهديد.
الإصلاح السياسي في الأردن يجب أن يُبنى على تغيير قانونيّ الانتخابات والأحزاب، لضمان تمثيل حقيقي وواسِع، حيث صدرت البيانات المُطالِبة بإلغاء تعديلات دستورية وضعت السلطات في يد الملك والأجهزة الأمنية، والتي جعلت الملك نفسه في مواجهة هذه الاحتجاجات والانتقادات النخبوية والشعبية، إضافة إلى العمل على بناء علاقاتٍ مع دول الجوار بهدف تنشيط الاقتصاد الأردني وتشجيع الاستثمار، فتغيير النهج أصبح شعار الأغلبية، وهو تلخيص لما تطالب به المجموعات الحراكية والأحزاب.
كما ولم يعد فاعلاً الاستقطاب الذي كان سائداً ما بين النظام والحركة الإسلامية، ولا بين فلسطيني وأردني، ولا جنوبي وشمالي، ولا بدوي وحَضَري، ولا أدلّ على ذلك من الحوارات العلنية الجارية في صفوف الحراك والمجتمع، حيث التوحّد حول مطالب وطنية مُحدَّدة وواضِحة، وهي شعارات مُحاربة الفساد واسترجاع الأموال المسروقة، ومحاسبة المسؤوليين عنها، واسترجاع الشركات الوطنية التي تمّ بيعها، واستعادة دور الدولة في تأمين العمل طبقاً للنصّ الدستوري، والرعاية الصحية والتعليم المجانيّ وغيرها من أساسيات العيش الكريم.
هذا ويمكن أن نتحوّل إلى دولة حرّة، وذلك إذا ما حرَّرنا إرادتنا السياسية، وامتلكنا قرارنا الوطني المستقل، وحرَّرنا ثرواتنا وتبنّينا التنمية الوطنية الحقيقية، وعملنا على مراجعة الاعتماد على القروض والمِنَح الخارجية، لكن للأسف بدلاً من ذلك كله ورَّطت الحكومات المُتعاقِبة الأردن والأردنيين في تراكُم الدَين الخارجي، وتعميق التبعيّة الاقتصادية والسياسية، والتي انتقلت إلى مرحلةٍ خطيرةٍ، وذلك بعد معاهدة وادي عربة مع إسرائيل عام 1994، وما تبعها من تسارُع في التطبيع الاقتصادي معها في السنوات الأخيرة، وذلك من خلال اتفاقيات شراء الغاز الصهيوني (الفلسطيني المسروق) واتفاقية قناة البحرين، وبناء تجارة حرّة على الحدود الأردنية تخدم الاستراتيجية الإسرائيلية، والتي تعتبرها تل أبيب نقطة انطلاق لبضائعها إلى الأسواق العربية، إضافة إلى ترتيبات صفقة القرن التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، وإلغاء الهوية الوطنية الأردنية لصالح العدو الصهيوني، حيث أن أكبر وأكثر الخاسِرين من هذه الصفقة هما الأردن وفلسطين المحتلة، وذلك لأنها تعني شَطْب النظام السياسي الحالي لصالح نظام سياسي بديل وبرأس جديدة، وديمغرافيا مُتعدّدة، وجغرافيا جديدة، وكله لقاء تسهيلات اقتصادية مالية وإستثمارات كبيرة.
لهذا يجب إعادة النظر في العلاقة مع العدو الإسرائيلي واتفاقية وادي عربة ومُلحقاتها، وتجنّب السياسات الخارجية ذات البُعد الواحِد والقائمة على الارتهان للولايات المتحدة وإسرائيل ومصالحهما، لتحقيق فكرة الشرق الأوسط الجديد، والعمل على إعادة مَوضَعة الدولة الأردنية في إطار تحالفات إقليمية ودولية جديدة تنسجم مع المصالح الوطنية الأردنية ومع خدمة القضايا القومية العربية الإسلامية، وتعزِّز سيادة الدولة الأردنية واستقلالها.
كما أن تكرار الحراكات الاحتجاجية والحملات المجتمعية من دون استجابة لها أو حتى إجراء عملية إصلاح سياسي، قد يدفع الشعب الأردني بقواه باتجاه انتفاضة شعبية، وذلك في إشارة منه على تصميم الشعب على مُحاسبةٍ شاملةٍ وليست شكلية، والحكمة تستدعي بأن يلجأ الملك لشعبه لكي يتحرَّر من الذين أوصلوا الأردن إلى ما هو عليه، وذلك لأن اندثار عديد الدول وكل تحوّلات التاريخ الكبرى للمجتمعات الحيّة أساسها وجَذْرها اقتصادي، فالباعِث على الخوف هو الفقر وانعدام العدالة في تقاسُم ثروات المجتمع، والفقر هو وقود الفتنة الذي ينقل السلاح الخامِل إلى سلاحٍ فاعِل، ويُحيل العُنف الكامِن إلى عنفٍ مُنفَلت.
الشعب الأردني شعب واعٍ برغم المُراهنات على تجهيلة وإضطهاده بكل الوسائل السياسية والإقتصادية وحتى الإجتماعية، وعندما تنعدم آفاق التصالُح مع الشعب، سوف تتفاقم المُعضلة السياسية في الأردن، والتي تنعكس في تراكُم خصومة حقيقية بين الشعب ورموزه الوطنية والسلطة التي يحكمها الحرس القديم، والذي مازال مُصمِّماً على استباحة كافة أشكال وجود الشعب، والتخريب المُتعمَّد للاقتصاد الأردني، والإهدار الكامل لأموال المواطنين دافعي الضرائب، لكن نرفع القبّعة لمرحلة بدأنا نشهد فيها بوادر حوار بنّاء واحترام للعقول من أصحاب القرار، وذلك نحو تشكيل جبهة وطنية شعبية واسعة لإنقاذ البلاد وتحقيق مطالب الشعب الأردني وأحلامه باسترداد وطنه وثرواته وموارده، وتقرير مصيره والسَيْر على طريق التحرّر الوطني، والديمقراطية والتقدّم الاجتماعي والانفكاك من التبعية.