أبعاد وارسو

يبدو أن مؤتمر وارسو جاء ليفك العزلة التي فرضها ملف خاشقجي على إسرائيل، وعدد من الدول العربية الخاسِرة فيه، وأعني الإمارات ومصر والسعودية، والذي عرف بالمقابل تصدّر قطر وتركيا للمشهد، واللتان كسبتا العديد من النقاط.

يبدو أن مؤتمر وارسو جاء ليفك العزلة التي فرضها ملف خاشقجي على إسرائيل

أثار مؤتمر "تعزيز مستقبل السلام والأمن في الشرق الأوسط"، المنعقد في وارسو عاصمة بولندا، أيام 13 و 14 شباط/فبراير 2019، ضجّة كبيرة. موعد وزاري أتى بأيام بعد الذكرى الأربعين التي عاشت على وقعها إيران، وحال الجمود التي تعرفها القضية الفلسطينية وسط انقسام داخلي، وقَطْع المساعدات الأميركية عن السلطة في رام الله، وجاء كذلك وملف قتل الصحافي خاشقجي لم يطو بعد، وحال الانقسام الخليجي، والضعف العربي العام، والحرب القائمة بعدد من النقط الساخنة.

بضغوط من إدارة ترامب ودعوات رسمية قبل شهر من انعقاده، حضرت 11 عاصمة عربية إلى جنب إسرائيل.

لماذا وارسو؟

تُعدّ بولندا العضو الفاعِل الأساسي في حلف شمال الأطلسي بعد انهيار الكتلة الشيوعية، ورغم أنها عضو في الاتحاد الأووربي، فهي تتطلّع من خلال احتضان المؤتمر إلى لعب دور ريادي في المنطقة، وملف الشرق الأوسط، والتقرّب أكثر لواشنطن، تصفية لحساب قديم مع موسكو، التي لازالت أضرار حربها في وارسو لم تطو بعد.

هذا التقارب الأميركي البولندي، يوقِد الحرب الباردة التي انتهت منذ زمن، ويُعيد إحياء رميمها، لتعيد صراع الشرق والغرب، باستحضار ما يقع كذلك في فنزويلا لحد الآن بين الغريمين التقليديين.

تبعات ملف خاشقجي

من جهة أخرى، يبدو أن مؤتمر وارسو جاء ليفك العزلة التي فرضها ملف خاشقجي على إسرائيل، وعدد من الدول العربية الخاسِرة فيه، وأعني الإمارات ومصر والسعودية، والذي عرف بالمقابل تصدّر قطر وتركيا للمشهد، واللتان كسبتا العديد من النقاط. لهذا سارعت الإمارات والسعودية ومعهما مصر إلى تلبية دعوة الإدارة الأميركية في محاولة لإعادة ترتيب المشهد، وتغيير بوصلة الصراع، والعودة إلى الواجهة ولملمة الخسائر من دون حسابات دقيقة، فرضتها حال الارتباك وتسارع الأحداث وغياب الخبرة والحنكة، مع أنظمة مستعدّة للدفع، والارتماء في أحضان الأجنبي على حساب المصلحة الوطنية. دول غير مستقلّة القرار ولا مستقرّة، ومُرتهنة في قرارها الداخلي بإملاءات الخارج، مقابل الاستمرار في السلطة بأيّ ثمن، "كما كشف ذلك ترامب في حال السعودية" في غياب مؤسّسات حقيقية وديمقراطية.

الانقسام العربي

كذلك زكّى هذا الموعد الدولي حال الانقسام العربية المُخيّبة للآمال، بين دول مشاركة مباركة مطبّعة مع الكيان الصهيوني، وأخرى غابت. ويمكن اعتباره أول تطبيع عربي واسع علني مع الكيان الصهيوني بعد الربيع العربي. استفادة إسرائيلية وأميركية، ومقاطعة فلسطينية: كشف المؤتمر بإقامته في وارسو عن طموحات أميركية في قلب أوروبا، بما يُعيد النظر الأوروبي في دور بولندا في مستقبل الأيام، وطموحها وطمعها في قاعدة أميركية تتصدّى للنفوذ الروسي المتزايد، تزكية للحسابات الأمنية بالأساس. أما على المستوى الداخلي لإسرائيل، فيُعدّ الموعد فرصة تسويقية جيّدة مواتية لنتنياهو وهو المقبل على استحقاقات انتخابية حاسِمة في مساره، لتجديد ولايته في أبريل المقبل، خاصة أنه ملاحَق بالعديد من تهم الفساد. ويُعدّ حضور العديد من الدول العربية التي لا تجمعها علاقات دبلوماسية بإسرائيل مكسباً سياسياً لا يُستهان به في هذه الفترة بالذات من صراع نتنياهو الداخلي على السلطة، وانتصاراً لرؤيته للأمور في المنطقة. على مستوى فلسطين: قاطعت السلطة الفلسطينية المؤتمر واستنكرته إلى جانب حماس، وعرف لأول مرة إجماعاً فلسطينياً وموقفاً موحّداً من كل الفصائل، لكن هذا الموقف لم يُترجم ولم يقطع مع حال الانقسام الفلسطينية لحد الآن مقابل تحرّكات متوالية للجانب الإسرائيلي الذي يشتغل على أكثر من واجهة ، ويحاول الخروج من عزلته وكبواته وخسارته الأخيرة في حربه على غزّة. هل يتحقّق السلام والأمن على يد أميركا وإسرائيل؟ من خلال الوقائع التاريخية والعديد من المحطات السابقة، لم تقدّم الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل أيّ دور في هذا الاتجاه، بل على العكس كانتا دائماً متورطتين. إسرائيل تبني آلاف المستوطنات وتسرق وتنهب وتقتل وتختطف وتنسّق أمنياً وتعتقل وتعذّب وتعتدي على النساء والأطفال ، وتجوّع وتحاصِر شعباً بأكمله وكانت تسبّبت في مجازر أم أن الذاكِرة العربية مثقوبة؟ فيما أميركا تعبّر عن القلق في أحسن الأحوال وتوفّر الغطاء وترفع الفيتو في وجه أيّ قرار يُدين الآلة الصهيونية المُجرمة. في عهد ترامب، أعلنت أميركا عن سفارتها في القدس عاصمة لإسرائيل، وتعدّ صفقة القرن على نار هادئة وتحشد لها الدعم، بما يؤكّد الدور الأميركي الجديد القديم. دمّرت كذلك إسرائيل عملية السلام وأفرغتها من محتواها على علاّتها ولازالت تخرق القرارات الأممية لحد الآن والقانون الدولي في أرض فلسطين وخارجها. مَن دمّر العراق؟ ومَن ساهم في محرقة سوريا؟ واقتتال ليبيا؟ وتدخّل في أفغانستان؟ ومَن أفشل اتفاقات أوسلو؟ هل نجح المؤتمر؟ شكّل الحضور الأوروبي المنخفض المستوى دبلوماسياً، القلق من دور واشنطن في قلب أراضيه، مؤشراً عدّه المراقبون علامة فشل كمقدّمة حكمت النتيجة، رغم التمثيل العربي المهم الذي شكّل خمس الحضور الكلي "11 عاصمة عربية" من بين ستين دولة، كما أنه يشكّل نصف الدول العربية "22 دولة"، فيما تشكّل خمس العالم الإسلامي. فيما اعتبر غياب دول كبرى مثل روسيا والصين، ورفض ممثلة الاتحاد الأوروبي الحضور، وخفض ألمانيا وفرنسا لمستوى حضورهما، واشتراط بريطانيا مناقشة الملف اليمني، وغياب كل من إيران وتركيا والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين والجزائر وموريتانيا والسودان مؤشراً أكبر على الإخفاق في خطوة الحشد. غياب المشروع العربي الإسلامي وحال التمزّق: وكيف يمكن للعرب السنّة التكافؤ مع مشروع شيعي إيراني ممتد وقوّة إقليمية صارت أمراً واقعاً تحسب له إسرائيل وأميركا ألف حساب وتنسّق وتعقد وتعاقب وتراقب وتخصّص له مؤتمراً بأكمله وتحشد له الدعم الدولي؟ لماذا لم تجد العرب حرجاً في الجلوس في طاولة واحدة مع كيان مجرم قاتِل باعتراف أممي وتسارع إلى تلبية دعوات أميركا، فيما تتعقّد المهمة بل وتستحيل أية قنوات تواصلية أو دبلوماسية مع جار مسلم ربما ما يجمعه بنا أكثر مما يفرّق وربما قد يشكّل حليفاً يقطع مع الإهانة الأميركية والتدخّل الأجنبي في شؤون العرب والمسلمين؟ هل ستتمكّن القمّة من حل مشاكل المنطقة اقتصادياً واجتماعياً وكبح الحرب في اليمن التي تجاوزت الأربع سنوات من دون حل، والنتيجة دمار وانقسام وشتات؟ هل ستحلّ مشكلة المياه في المنطقة وحصار الشعب الفلسطيني؟ وإذا سلّمنا بواقع المشروع الإيراني التوسّعي الذي من حقّه في ظلّ الفراغ السنّي العربي المسلم أن يبحث له عن نفوذ وعن تقوية وجوده كأية دولة في ظل الحصار المفروض عليه دولياً، مع تسجيل التحفّظات في عدد من القرارات والخطوات المشتركة فارسياً وعربياً. هل يقابل كل هذا بالارتماء في أحضان الأجنبي؟ هل نفتح الباب لسباق نووي خليجي فارسي، ثم نفتح أوار حرب تكون الأرض والدول العربية أدوات وأرضاً لها والأمثلة أمامنا في العراق وسوريا، واليمن وليبيا وأفغانستان وفلسطين؟ خاتمة: بالمُجمل كشف مؤتمر وارسو عن جزء كبير من التحرّك والعمل الإسرائيلي الأميركي الدؤوب، كما أنه عرّى حال الوهن العربية التي ازدادت أكثر من أيّ وقت مضى وحال الانقسام وضبابية الرؤية وغياب أيّ مشروع عربي جاد. كما زكّى الحدث حال الانقسام الدولي بشكل عام حول منطقة الشرق الأوسط وإيران وفلسطين بشكل خاص، ولم يحقّق الإجماع الذي سعت إليه إسرائيل وفوّت عليها ضربة دبلوماسية كبيرة، يبدو أنها لم تلم بكل خيوطها بعد، لفك عزلتها من حال المقاطعة الفلسطينية الجارية والعربية التي دامت عقوداً وإدانة جرائمها. لكنها لن تتوانى في ظلّ ما يجري أن تسعى لتكثيف جهودها مستقبلاً، ومراكمة النقاش الذي فتحته في وارسو واللقاءات والمواقف المهمة لها التي حصلت عليها لتحصد المزيد من المكاسب السياسية داخلياً وخارجياً. في نفس الوقت صرنا أمام لعب مكشوف وعلاقات عربية إسرائيلية واضحة في العلن، ناتجة ولاشك من علاقات وزيارات سرّية سابقة وتنسيق على أكثر من صعيد، ومعرفة دقيقة بالوضع العربي الداخلي الضعيف، وماسكة بمعيّة أميركا بالعديد من الملفات الضاغطة مستغلّة إياها، آخرها قضية قتل الصحافي خاشقجي. وبتنا أمام معطيات أخرى قد تنضاف وترسم وتشكّل أحد أجزاء تحوّلات وتحرّكات قادمة وقائمة في المنطقة والعالم. إن هذه الخطوة الأميركية في وارسو بمثابة ضوء أخضر يشكّل بديلاً عن أية محاسبة ومُعاقبة لإسرائيل عن الجرائم التي ارتكبتها، وقلباً للحقائق والوقائع، وكأنها تكافئها على جرائمها في فلسطين وخارجها، وتعمل من أجل أهدافها وتتوافق معها على مستوى الاستراتيجية والأهداف في المنطقة تسويقاً لرؤيتهما وتنسيقاً مشتركاً إن لم نقل أنه صادر عن جهة واحدة، توجّه قرارات البيت الأبيض في ما يخصّ الصراع العربي الإسرائيلي. سياسياً وإنسانياً بداخلنا المسلم بتنوّعاته العربية والفارسية والأمازيغية، لا نريد حرباً، وكفى من القتل تحت أيّ إسم وذريعة، لأننا في الأخير سنرى عواصم مدمّرة، وحلفاً دولياً يقتات من قصعتنا ويتكالب، يتحرّك بأموالنا ونفطنا. لابد من حقن دماء المسلمين ولمّ شتاتهم وفتح حوار داخلي جاد مسؤول على أرضية واضحة يركّز على المشترك ويؤجّل الخلاف، بدل الارتهان إلى المشروع الإسرائيلي الأميركي الذي لن يفكّر بالمنطق الوطني لأراضينا وشعوبنا أبداً، بل يسعى إلى تحقيق مصالحه لا غير، وضرب الإخوة بعضهم ببعض، وتقويض ومحاصرة أيّ فعل يخرج عن "الطوع" و الطوق.