واقع التغلغل الإسرائيلي بين ساحل وصحراء إفريقيا
ليست الزيارة التشادية التي تُحقّق اختراقاً إسرائيليّاً جديداً داخل الغرب الإفريقي وتشجّع تل أبيب على مطالبتها المستمرة بالحصول على عضويّة مراقب في الاتحاد الإفريقي وتغيّرها بعقد مؤتمر إسرائيل وإفريقيا الذي مُنيَ بالفشل في عقده في أكتوبر/ تشرين الأول 2017 بـ(توغو)، فإن هنالك عقبات تُنغِّص على تل أبيب مشروعها الإفريقي ألا وهي نشاط جماعات مناهضة للاختراق الإسرائيلي في إفريقيا بغرب إفريقيا وشرقها وجنوبها.
هي بلاد "الساحل والصحراء" منطقة تلاقٍ بين الشعوب والثقافات والحضارات، كانت لقرونٍ واحة تواصل وجسر عبور وربْط بين شمال القارة الإفريقية ووسطها وجنوبها، لكنها أضحت بفعل عوامل مُتداخِلة ساحة صراعات وتهديدات، ومصدر قلق وخوف لأهلها وللعالم من حولها. إنها مُتشابكة ومُتداخلة، يغذّي بعضها بعضاً إلى حد أنها تشكّل حلقة مُفرَغة يجب العمل على كسْرها أولاً قبل الانتقال إلى المواجهة الجزئية لكل تحدٍ على حدة.
في هذا الإطار يُعتبر تجمّع دول الساحل والصحراء المُصطلح عليه (سين صاد) المؤسَّس في أوائل فبراير/ شباط 1998، أوسع تجمّع لدول المنطقة. فهو يضمّ 92 دولة، وحوالى نصف سكان القارة الأفريقية. والأهم أن أعضاءه اتّفقوا على تعزيز العمل المشترك في مختلف المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية. وتؤكّد المعاهدة المُنشأة على أن من أهدافها إقامة اتحاد اقتصادي شامل، ومخطّط تنموي مُتكامل، وإزالة العوائق أمام حركة الأشخاص، ورأس المال، وحريات الإقامة والعمل والتملّك، وتدفّق التجارة والخدمات، وتشجيع وسائل النقل والاتصالات.
ليعلم الجميع أن إسرائيل مُصرّة على عقْد المؤتمر السالِف، ومُصرّة كذلك على الحصول على مقعد مُراقب في الاتحاد الإفريقي، تلك المنظمة القاريّة التي تتّخذ من أديس أبابا مقرّاً رسميّاً لها، وهو ما جعلها تعتمد دبلوماسية الزيارات المُتتابعة والمُتكرّرة لعددٍ من الدول الإفريقية. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قد حضر المؤتمر الرئاسي الحادي والخمسين لمنظمة التعاون الاقتصادي في غرب إفريقيا "إيكواس" في مونروفيا عاصمة ليبيريا، في 4 يونيو/ حزيران 2017، وقد دُعيَ إلى تلك الفعالية دعوة شرفيّة، وشكَّل حضوره لهذه الفعالية سبباً في تغيّب ملك المغرب، محمّد السادس عنها، رغم سعي المغرب للانضمام إلى هذه المنظمة الإقليمية الإفريقية.
جاءت الزيارات الإسرائيلية لـ"غانا وكوت ديفوار" في غرب إفريقيا سعياً للتمكين للرغبة الإسرائيلية في الحصول على صفة مُراقب في الاتحاد الإفريقي. فما الذي تريده الأنظمة الإفريقية المُطبِّعة من إسرائيل؟ هنالك عدّة واجهات تحاول إسرائيل أن تسوِّق من خلالها نفسها للدول الإفريقية، ولعلّ من أبرزها الخبرة الإسرائيلية في المجال الأمني والتكنولوجي تُسَوِّق إسرائيل نفسها لإفريقيا على أن لديها خبراتٍ أمنية متطوّرة في مكافحة الإرهاب، وأنها قد أنتجت وسائل تكنولوجية مُتطوّرة للمُراقبة والتنصّت، وأن لديها شركات خاصة أسّسها ضباط سابقون في جيش الدفاع الإسرائيلي من شأنها أن تقوّيَ وتطوّرَ أداء الحرس الرئاسي ووحدات النخبة في الدول الإفريقية. وبهذه المُعطيات المُغرية للأنظمة الاستبدادية يجد الرؤساء الأفارقة في إسرائيل مُبتغاهم.
إن واقع أغلب الدول الإفريقية عيشها لحالات توتّر أمني، كما أن العديد من الزعماء الأفارقة يرغب في التنصّت على مُعارضيه والحصول على الوسائل التقنية الحديثة والكفيلة بتحقيق ذلك الغرض، وبهذا أصبحت إسرائيل بمثابة كل نظام إفريقي يريد برامج وتكنولوجيا للتجسّس على الخصوم؛ خصوصاً تلك التي تخصّ التنصّت على المُكالمات ومختلف أنواع التواصل، فضلاً عن تقديم إسرائيل الدعم اللوجستي الأمني لأنظمة الحُكم من خلال توفير المعلومات الأمنية التي تُجمَع بواسطة الاستخبارات الإسرائيلية، وهو ما ستوفّره إسرائيل لهذه الأنظمة.
شمال الصحراء مُمثلاً في ليبيا منذ 2011، جاء ليزيد الكارثة، فتمّ التخلّي عن العديد من مبادراتها الإفريقية طويلة الأجل تحت الضغط الفرنسي، وعلى سبيل المثال يتمّ استبدال مجموعة الساحل والصحراء بمجموعةٍ أصغر مكوّنة من دولة الساحل فقط وهي (تشاد والنيجر ومالي وموريتانيا وبوركينا فاسو). ومن المُفارقات أن أعضاء دول الساحل الخمس هم الأضعف في إفريقيا ويركّزون على الأمن من خلال السماح لفرنسا والولايات المتحدة بإنشاء قواعد عسكرية في مالي والنيجر. وهنا تشير الدراسات إلى مداخل عديدة لمعالجة هذه الوضعية، وهي مداخل يجب أن تسير مع بعضها جنباً إلى جنب للوصول إلى نتائج إيجابية. منها المُقاربة الشمولية، حيث تشير العديد من التقارير والأبحاث إلى أن كثيراً من المُقاربات لحل مشاكل "الساحل والصحراء" تغيب عنها الشمولية والاندماجية ويطغى عليها التركيز على الجانب الأمني والعسكري أو مُحاربة الإرهاب، ما يؤدّي إلى توالي حالات الفشل في المعالجة بفعل تهميش الأبعاد الأخرى.
عليه تبقى تحديات الساحل والصحراء ومستقبلها في حاجة إلى دراسات حول دور بعض القوى الإقليمية أو الدولية ذات المصالح والمُستغلّة لثروات المنطقة في التأثير على تنفيذ الإستراتيجيات الإفريقية والأممية لحل مشاكل المنطقة. فما هي تفاعُلات تلك القوى مع الأطراف المؤثّرة في الصراع؟ كيف يمكن تفادي تصعيد جديد في المنطقة؟ كيف يمكن تفادي تدخُلات عسكرية أخرى بعد تدخُل فرنسا في مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى؟. كذلك الوجود الإسرائيلي في جنوب ليبيا بداية من تشاد.
يبقى أن من المؤكّد أنه أياً كانت الجهود الإقليمية والدولية، فستظلّ ضمن دائرة المُصاحبة وفي إطار دور الوسيط أو الميّسر، أما حل المشاكل في العُمق وبكيفية مُستدامة فلن يتحقّق ما لم يأخذ أبناء المنطقة الأمور بأيديهم، وفق مُقاربة تشارُكية وتوافقية ومندمجة، هم من يقرّرون إجراءاتها وبالتالي هم من يجنون ثمارها. وحيث أن الأموال الضخمة التي تجنيها مختلف الأطراف: الجماعات المسلّحة وجماعات الجريمة المنظّمة وتهريب البشر والمسؤولون المتعاملون معهم وبعض القبائل المُستفيدة وغيرهم، تضرب في العمق برامج التنمية السياسية والاقتصادية.