أربعون عاماً على ثورتين مُتعاكستين

للإجابة على السؤال الكبير الذي لا تفتأ النُخَب المُثقّفة في بلادنا تطرحه في كل مناسبة، هل يمكننا تحمّل أكلاف المقاومة ونتائج الغضَب الأميركي على بلادنا؟ وهل العائِد من ذلك مُجدٍ؟.

انتهى المسار الذي وضع السادات أكبر قُطرٍ عربي عليه، إلى وضعٍ من المَهانةِ لا يُصدَّق

صادفت قبل أيام الذكرى الأربعون للانعطافة التاريخية التي قادت ثورةُ "الإمام الخميني"، إيرانَ عبرها إلى زمنٍ جديدٍ كيلاً، فمنذ ذلك الحين لم تكتفِ إيران بالتحرّر من التبعية للولايات المتحدة، وبطرد 13 قاعدةً استخباراتية أميركية من الأراضي الإيرانية، وبتحويل السفارة الإسرائيلية في طهران إلى سفارة فلسطين، بل أتبعت كل ذلك بالالتزام العمَلي السياسي «وليس الأخلاقي النظري فقط» بقضايا حركات التحرّر في العالم الثالث، وفي المركز منها قضية فلسطين.

على التوازي لكن بالاتجاه المُعاكس تماماً سبقت الثورة الإيرانية بأشهرٍ، ثورة أخرى في بلدٍ عربيٍ هام، لم يقم بها الشعب المقهور على غرار ما حدث في طهران، بل قام بها حاكمٌ ذو هوى غربي "أنور السادات" قرّر فجأة  الإطاحة بكل الإرث التحرّري لسلفه "جمال عبد الناصر"، عبر التخفّف من أثقال الصراع مع إسرائيل، والانخراط  الكامل في المعسكر الأميركي-الإسرائيلي، حينها ألقى السادات خطابه الشهير في الكنيست الإسرائيلي، وأدخل استخباراته ضمن "نادي السفاري" وهو تجمّع لأجهزة الاستخبارات الغربية والعربية الموالية لواشنطن، مُهمّته الأساسية التنسيق ضد حركات التحرّر في القارة الأفريقية، تلك الحركات التي كان "جمال عبد الناصر" المُلهِم والداعِم لها ولمثيلاتها في أميركا اللاتينية وآسيا طوال الخمسينات والستينات، كمثال: «صرَّح كل من غيفارا وكاسترو لجمال خلال زيارتهما إلى القاهرة بأنهما استلهما الثورة الكوبية من نجاح ناصر بتأميم قناة السويس عام 1952».

لذلك من المُفيد وبهدف استخلاص العِبرة، بعد مُضيّ أربعة عقود كاملة على التحوّلين الكبيرين، اللذين اجتاحا بلدين أساسيين في المنطقة، أن نتناول المسارين المُتناقضين بالمُقارنة، وذلك للإجابة على السؤال الكبير الذي لا تفتأ النُخَب المُثقّفة في بلادنا تطرحه في كل مناسبة، هل يمكننا تحمّل أكلاف المقاومة ونتائج الغضَب الأميركي على بلادنا؟ وهل العائِد من ذلك مُجدٍ؟.

فبينما كانت الذريعة الأساسية للانقلاب الساداتي، التفرّغ للتنمية وتحقيق الرفاه للشعب المصري وذلك عبر نَيْل الرضا الأميركي، وتحت شعار «مصر أولاً»، انتهى المسار الذي وضع السادات أكبر قُطرٍ عربي عليه، إلى وضعٍ من المَهانةِ لا يُصدَّق، فالدولة التي كانت تشكّل نموذجاً رائداً لدول العالم النامي، تحوَّلت إلى تابعٍ ذليلٍ ليس للسيّد الأميركي فحسب، بل حتى لوكلائه الخليجيين في المنطقة، يستعبدون قيادته ويذلّونها بالقروضِ والمُساعدات، ويسيطرون على بعض ٍمن أرضه، ويبقى مع ذلك غارِقاً في أزماتٍ اقتصاديةٍ تكاد لا تنتهي، يقف رئيسه حاثّاً الشعب على التقشّف مُستشهداً بـ«ثلاجته التي بقيت عشر سنوات فارِغة»، ثم يقف أمام الرئيس الفرنسي ماكرون مُعلِناً عن عجزه التام مُردِّداً: «طيّب أجيب منين؟ حد يقولي؟».

على المقلب الآخر كانت إيران ورغم العقوبات والغَضَب الأميركي والتهديدات الإسرائيلية، وفي ذكرى ثورتها الأربعين، تنجح في إطلاق أول قمر صناعي أنتجته محلياً مع الصاروخ الذي أوصله إلى مساره، مُحقّقةً على التوازي ووفقاً لأرقام الأمم المتحدة نفسها تنميةً إنسانيةً شاملةً في كل المجالات، ، حيث ارتفع معدّل العُمر المُتوقّع للفرد فيها من 55 عاماً زمن الشاه، إلى 76 عاماً اليوم، وارتفعت معدّلات النساء المُتعلّمات من 20% قبل الثورة إلى 80% بعدها، وبينما كان الإنتاج السينمائي الإيراني قبل الثورة مُقتصِراً على الأفلام التجارية الخالية من أية قيمة فنية، وصلت الأفلام الإيرانية بعد الثورة إلى أعلى الجوائز والترشيحات في المهرجانات السينمائية العالمية في كان وبرلين وفينيسيا ومونتريال، مُحقّقةً معادلة الحضور الجماهيري مع الإبداع الفني، بالإضافة إلى الإنجازات في مجال تقنية النانو والبرنامج النووي وصناعة السيارات وإرسال الكائنات الحيّة إلى الفضاء واسترجاعها على قَيْدِ الحياة، وهي مجالات دخلتها إيران إلى جانب عددٍ محدودٍ جداً من دول العالم، تكاد تُعدّ على أصابع اليد الواحدة أو اليدين على أكثر تقدير « حسب موقع اسكوبوس العالمي وحتى نهاية عام 2015 ظهر أن إيران قد حازت المرتبة الـ16 عالمياً في إنتاج العِلم».

إلى جانب ما سبق يمكن للزائِر الأجنبي لشوارع العاصمة الإيرانية طهران أن يُلاحِظ مظاهر التنظيم العُمراني المُدهِش والنظافة، والالتزام بالمعايير البيئية لناحية نسبة الحدائق الخضراء إلى الأبنية السكنية، كل ذلك إلى جانب ظهورٍ مُكثّفٍ لصوَر المناضلين الثوريين حول العالم من "هيوغو تشافيز" إلى "فيديل كاسترو" وصوَر قادة المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، مما يُسمّون وفقاً للأدبيات الإيرانية، بقادة الثورة العالمية من أجل حقوق «المُستضعَفين في الأرض».

ويمكن أن نُعيد المُقارنة السابقة بين تجربتيّ إيران ومصر، لكن مع تجارب أخرى في العالم العربي أحدها تجربة «حركات إسلامية شيعية» بدأت في العراق إثر الغزو الأميركي عام 2003، وتحت الإبط الأميركي، ومع شعارات «الديمقراطية والتخلّص من الديكتاتور»، ثمّ انتهت إلى تصدّر العراق لأول المراتب على سلّم الفساد العالمي، حيث لم يكن يُتصَوّر سابقاً أن يسمح صدَّام لأٍي من مسؤولي نظامه، بالوصول إلى نصف ما وصله مسؤولو حزب الدعوة أو المجلس الأعلى «الإسلاميين الشيعيين» من فساد ونَهْب لأموال الشعب والدولة.

لنستخلص بناءً على ذلك أن علّة النجاح والفشل، ليست مُتعلّقةً أبداً بـ«الإطار الطائفي المذهبي» الذي حاول الإعلام الخليجي أن يضع إيران وتجربتها ضمنه، بهدف عزلها، بل يتعلّق بما قاله الزعيم المصري الراحل "جمال عبد الناصر" عندما شرح لنا أن: «كلفة المقاومة كبيرة، لكنها تبقى أقل كثيراً من كلفة الخضوع والاستسلام».