الأحزاب السياسية بين النشأة ونُظم التصنيف
تتعدّد التعريفات المختلفة للأحزاب السياسية وذلك كأيّ مفهوم من مفاهيم العلوم الإجتماعية، إلا أنه ومن خلال النظر لهذه التعريفات يمكن الإشارة إلى أن الحزب السياسي هو: (إتحاد بين مجموعة من الأفراد بغرض العمل معاً لتحقيق مصلحة عامة معيّنة، وفقاً لمبادئ خاصة متّفقين عليها، وذلك من خلال الوصول إلى السلطة وممارستها)، حيث أن للحزب السياسي هيكلاً تنظيمياً يجمع قادته وأعضاءه، كما وله جهاز إداري معاون يسعى من خلاله دائماً إلى توسيع دائرة أنصاره بين أفراد الشعب.
هذا وتعدّ الأحزاب السياسية إحدى أدوات التنمية السياسية في العصر الحديث، فكما تعبّر سياسة التصنيع عن مضمون التنمية الإقتصادية، فإن الأحزاب والنظم الحزبية تعبّرعن درجة التنمية السياسية في النظام السياسي، وقد حافظت الأحزاب السياسية على أهميّتها بالرغم من تطوّر مؤسّسات المجتمع المدني التي اكتسب بعضها مركزاً مرموقاً على الصعيد الخارجي، إلا أن هذه المؤسّسات لم تستطع أن تؤدّي وظيفة الأحزاب في عملية التداول السلمي للسلطة، إضافة إلى وظائف أخرى في المجتمع.
ولقد نشأت الأحزاب السياسية في دول العالم بأشكال وأساليب مختلفة أهمها:
1- ظهور البرلمانات في النظم السياسية المختلفة، إذ أنه مع وجود البرلمانات ظهرت الكتل النيابية التي كانت النواة لبزوغ الأحزاب، حيث أصبح هناك تعاون بين أعضاء البرلمانات المُتشابهين في الأفكار والأيديولوجيات والمصالح، ومع مرور الوقت تلمّس هؤلاء الأفراد حتميّة العمل المشترك بينهم، وقد إزداد هذا الإدراك مع تعاظم دور البرلمانات في النظم السياسية المتنوّعة، إلى الحد الذي بدأ نشاط تلك الكتل البرلمانية يظهر خارج البرلمانات من أجل التأثير في الرأي العام، وقد حدث ذلك في العديد من الأحزاب الأوروبية كما حدث في العالم النامي مثل حال حزب الحرية والإئتلاف العثماني، الذي كان في الأصل مجرّد كتلة للنواب العرب في البرلمان التركي عام 1911م.
2- ظهور الأحزاب السياسية بالتجارب الإنتخابية في العديد من بلدان العالم، وهي التجارب التي بدأت مع سيادة مبدأ الإقتراع العام عوضاً عن مقاعد الوراثة ومقاعد النبلاء، حيث ظهرت الكتل التصويتية مع ظهور اللجان الإنتخابية التي تتشكّل في كل منطقة من المناطق الإنتخابية بغرض الدعاية للمرشّحين الذين أصبحوا آلياً يتعاونون مع بعضهم البعض لمجرّد الإتحاد في الفكر والهدف، وقد إختفت تلك الكتل في البداية مع إنتهاء الإنتخابات، لكنها سرعان ما إستمرت بعد الإنتخابات وأسفرت عن أحزاب سياسية تتألّف من مجموعات من الأشخاص مُتّحدي الفكر والرأي، أي أن بداية التواجد هنا كان خارج البرلمان ثم أصبح الحزب يتواجد داخله، وقد سعت هذه الأحزاب في ما بعد إلى تكوين هياكل تنظيمية دائمة لكسب الأعضاء ومراقبة عمل البرلمان والسلطة التنفيذية.
3- ظهور منظمات الشباب والجمعيات الفكرية والهيئات الدينية والنقابات، بحيث سعت بعض هذه المؤسّسات لتنظيم نفسها بشكل أكبر من كونها جماعات مصالح تحقّق الخدمة لأعضائها فقط، ولعلّ أبرز الأمثلة على ذلك حزب العمال البريطاني الذي نشأ بداية في كنف نقابات العمال، وكذلك الحال بالنسبة لأحزاب الفلاحين وخاصة في بعض الدول الإسكندنافية والتي كان أصل نشأتها الجمعيات الفلاحية، إضافة إلى ذلك فقد كان أساس نشأة بعض الأحزاب المسيحية في أوروبا هو الجمعيات المسيحية، أما في دول أميركا اللاتينية فإنه لا يوجد أي أساس للنشأة البرلمانية للأحزاب السياسية فيها، ولذلك فإن البحث في أصول الأحزاب هناك يركّز على التحليل الإجتماعي والإقتصادي لأوضاع هذه البلدان بعد جلاء الإستعمار، وهو ما يعكس مصالح كبار الملاّك والعسكريين والكنيسة، حيث كانت تلك هي اللبنة الأولى لظهور الرعيل الأول من الأحزاب السياسية هناك.
4- نشأة الأحزاب السياسية (في بعض الأحيان وليس دائماً) بوجود أزمات التنمية السياسية، فأزمات مثل الشرعية والمشاركة والإندماج أدّت إلى نشأة العديد من الأحزاب السياسية، وذلك مثل الأحزاب السياسية الفرنسية التي نشأت إبان الحكم المَلكي في أواخر القرن الـ 18، بالإضافة إلى الأحزاب التي نشأت خلال الحكم الإستعماري الفرنسي في خمسينات القرن الماضي في بعض الدول المستعمرة، أما بالنسبة لأزمة التكامل فقد أنتجت في كثير من الأحيان أحزاباً قومية مثل بعض الأحزاب الألمانية والإيطالية، إضافة إلى بعض الأحزاب العربية التي جعلت من الوحدة العربية والفكرة القومية هدفاً لها.
5- ظهور الأحزاب السياسية كنتيجة لقيام بعض الجماعات بتنظيم نفسها لمواجهة الإستعمار والتحرّر من نير الإحتلال الأجنبي، وهو الأمر الذي يمكن تلمّسه على وجه الخصوص في الجيل الأول من الأحزاب السياسية التي ظهرت في بعض بلدان العالم العربي وأفريقيا.
هكذا وعلى هذه الأسس بدأت نشأة الأحزاب السياسية بشكل أوليّ منذ نحو قرنين من الزمان تقريباً، ولكنها لم تتطوّر وتلعب دوراً مهماً إلا منذ حوالى قرن، وعلى الرغم من التباين في أسباب ودواعي النشأة، إلا أن الأحزاب وبشكل عام كانت إحدى أهم آليات المشاركة السياسية ومن أهم أدوات التنشئة السياسية في المجتمعات، وذلك بالرغم مما قيل عنها في بداية النشأة من أنها ستكون أداة للإنقسام وللفساد السياسي وستفتح الباب عملياً أمام التدخّل الأجنبي، وأنها ستكون مصدراً لعدم الإستقرار السياسي وانعدام الكفاءة الإدارية، وهذا كله كان على حد تعبير جورج واشنطن مؤسّس الولايات المتحدة الأميركية.
أما تصنيف النظم الحزبية في العالم فهو يختلف باختلاف شكل النظام السياسي الموجود في كل دولة، والمعروف أن هناك ثلاثة أشكال رئيسية من النظم السياسية هي: (النظام الديمقراطي والنظام الشمولي والنظام التسلّطي)، كما وهناك عدّة تصنيفات للنظم الحزبية لكن أكثرها شيوعاً هي: (النظم الحزبية التنافسية والنظم الحزبية اللا تنافسية).
النظم الحزبية التنافسية تشتمل على ثلاثة أنواع هي:
1- نظام التعدّد الحزبي: ويتّسم هذا النظام بوجود عدّة أحزاب متفاوتة في تأثيرها، ما يؤدّي إلى استقطاب حزبي ينعكس على الرأي العام، وذلك مثل ما هي الحال في كل من (إيطاليا – ألمانيا – بلجيكا – هولندا – النرويج – الدانمارك).
2- نظام الحزبين الكبيرين: وتبرز هنا الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا كنموذجين بارزين ضمن هذا التصنيف، وفي هذا النظام يوجد عدد كبير من الأحزاب، لكن فيه حزبان كبيران غالباً ما يتبادلان موقع السلطة في النظام السياسي، حيث يوجد قدر كبير من التنافس بين هذين الحزبين للحصول على الأغلبية.
3- نظام الحزب المُهيمن : وفي هذا النظام توجد أحزاب سياسية كثيرة، وهي أحزاب منافسة للحزب الغالب أو المُهيمن أو المُسيطر، لكن منافستها له هي منافسة نظرية شكلية، حيث يعتبر هذا النموذج من النماذج الأساسية للأحزاب السياسية في النظم التعدّدية في البلدان النامية، وإن ظهر في بعض الدول الديمقراطية (بغضّ النظر عن درجة نموها الإقتصادي)، وذلك مثل اليابان والهند عقب الحرب العالمية الثانية وفي سبعينات القرن الماضي، ولعلّ الإشكالية الرئيسية التي تقابل أي قائم بدراسة حزب من أحزاب الحكم في نظام الحزب المُهيمن، هي كيفية دراسة حزب الدولة المُندمج وظيفياُ وإيديولوجياً ونخبوياً فيها من دون الإنزلاق لدراسة الدولة أو دراسة الحكومة.
أما النظم الحزبية اللا تنافسية فيتّصف النظام الحزبي فيها بإنتفاء أية منافسة ولو نظرية بين الأحزاب السياسية، وذلك إما لوجود حزب واحد فقط أو لوجود حزب واحد إلى جانب أحزاب شكلية تخضع لقيادته في إطار جبهة وطنية ليس مسموحاً لأيّ منها بالحلول محله، وقد اكتسب تصنيف الحزب الواحد أهميته منذ الثورة البلشفية في روسيا عام 1917م، حيث أقامت تلك الثورة حزباً ملهماً للعمال ليس فقط في الإتحاد السوفياتي بل في كل ربوع أوروبا الشرقية في ما بعد، ورغم أن هذا المفهوم سار في تلك البلدان في مواجهة الأحزاب الرأسمالية، إلا أنه ظهر في بلدان العالم الثالث كمفهوم موحّد لفئات المجتمع المختلفة وبهدف الحد من الصراع الإجتماعي، وقد أصبح الحزب الواحد هو الظاهرة الكاسحة للنظم الحزبية التي نشأت في أفريقيا عقب استقلال دولها، وذلك كحزب قائم بغرض الدمج الجماهيري، وعلى هذا الأساس يصنّف البعض نظام الحزب الواحد إلى نظام الحزب الواحد الشمولي الذي غالباً ما يكون إيديولوجيا (شيوعي أو فاشي مثلاً)، ونظام الحزب الواحد المُتسلّط الذي ليست له أيديولوجية واحدة وشاملة.