حركة النهضة والتحوير الوزاري
لم يكن صعباً على حركة النهضة، أن تتّخذ موقفاً موحّداً، يُحسَب ثورياً لها، من تعيين وزير صهيوني، في التحوير الوزاري الأخير، يتماشى وتاريخها النضالي وموقفها المبدئي من القضية الفلسطينية، فمجرّد تعبير رئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشي عن رفضه لذلك التعيين، سيُقابله رفض لكتلته البرلمانية له، وبالتالي إسقاطه، وإجبار رئيس الحكومة على استبداله بوزيرٍ تونسي.
ويبدو أن الحرص على الشراكة الباهتة في كرسي الحُكم، قد أنست أعضاء الحركة نضالهم، ومواقفهم من القضية الفلسطينية، مع أن من عادة المُناضلين الصادقين، ألا ينسوا تاريخهم، فزخم الحركة النضالي، قد رفعت من منسوبه الثوري - لدى كوادرها وأفرادها - إحياءات يوم الأرض ويوم الشهيد، وغيرها من المناسبات التي أولوها في الجامعات، ما تستحق من مواقف، داعِمة للقضية الفلسطينية في الثمانينات من القرن الماضي.
اقتران القضية الفلسطينية بحركة الاتجاه الإسلامي، جعل من تفاصيلها مادة ثورية لمُنتسبيها، يقيمونها بحرصٍ واهتمام، ولا أشك في صدق نوايا الساهرين والقائمين على إنجاح تظاهراتها الطلابية حينها، بتعابيرها التلقائية النابعة من الوجدان العربي الإسلامي، ولكن ما يجعلني أستغرب إلى حد الذهول، هذا الانقلاب الذي حصل من حركة النهضة، تجاه التزاماتها المبدئية من القضية الفلسطينية، والذي بلغ اليوم 180 درجة، جعلها تسقط في ثاني اختبار لها، بعد سقوطها في معارضة مشروع قانون تجريم التطبيع.
لقد شكّل تصويت الكتلة النيابية حركة النهضة، في الجلسة البرلمانية المُنعقدة يوم أول أمس 12/11/2018، لفائدة التحوير الوزاري الأخير، الذي تقدَّم به يوسف الشاهد رئيس الحكومة، سقوطاً آخر لما بقي من التزام منها نحو القضية الفلسطينية، مع قدرتها على القيام بذلك، وكسب شرائح واسعة من الشعب التونسي، الذي لا يزال يحمل بين جوانح أفراده حباً لفلسطين، ووقوفاً مبدئياً الى جانب حقوقها المُغتصَبة.
وبينما كان الكيان الصهيوني يشنّ عدواناً همجيّاً جديداً على قطاع غزّة، فيُدمّر بناها ويقتل أهلها بمشهد متواطئ مع دول العالم التي أصبحت اعتداءات أعداء الإنسانية شيئاً مألوفا عندها ولا آثار مترتبة عليها في مجالسها الحقوقية والدولية، كان نواب حركة النهضة يستعدّون لتمرير تطبيع جديد، هو الأشدّ في تاريخ التطبيع التونسي مع الكيان الغاصِب، نظراً إلى تداعياته المستقبلية الخطيرة على فلسطين وتونس معاً.
وما لا يجب أن نغفل عنه في جلسة التصويت على التحوير الوزاري الأخير، دهاء وخبث كتلة حركة نداء تونس، التي تعمّدت الغياب عنها استجابة لطلب الحزب، تنصّلاً من تبعات ذلك التصويت، وأراه توريطاً غير بريء لكتلة النهضة، وما سيترتّب على ذلك من مسؤولية قانونية وأخلاقية في قادم الأيام.
127 صوّتوا لفائدة التحوير الوزاري الجديد منهم 69 من حركة النهضة، بمعنى آخر لو لم تصوّت الكتلة لفائدة التحوير الوزاري وتزكّي بذلك خيار تعيين الصهيوني روني الطرابلسي، والتطبيع للمرة الثانية بعد رفض مشروع قانون تجريم التطبيع، لما أمكن لهذا المسار أن يستقوي بهذا القدر الكبير، وبذلك تتحمّل الحركة مسؤولية تاريخية في هذا الإطار، وستتحمّل تبعاته عاجلاً أم آجلاً.
انقلاب الحركة على مبدئها في نصرة الشعب الفلسطيني، والذي ناضلت من أجله سنوات طوال، وجعلت منه أحد أبرز عناوين معارضتها ومقاومتها للنظامين السابقين، يدفعنا إلى التساؤل عن سبب ذلك؟ حيث أنه لا بدّ من أن يكون لكل انقلاب سبب.
بعد أن تبيّن أن ما حصل في تونس من تغيير، تَعنوَن بالثروة التونسية، مُفتتحاً ما عرّفه الغرب بالربيع العربي، والذي تبيّن في ما بعد أنه من صنعه وتدبيره، وتوجيهه حيثما أراد، مُستهدفاً به دولاً وشعوباً بعينها من دون غيرها، ممَن كانت في أمسّ الحاجة إلى تغييرٍ ديمقراطي يطوي صفحة حقبتها الدكتاتورية، فتونس بتعبيرٍ آخر كانت ذلك الطُعم الذي أكله مَن نسجَ على منوالها من الشعوب المُستهدَفة، وكانت الغاية من كل ذلك، إغراء الشعب السوري بسهولة التغيير وسرعة إنجاز الثورة.
وحيث أن الغرب وعلى رأسه مُدبّرة أمره أميركا بعد جَمْعه وإحصائه ومتابعته لكل ما جرى على الساحات العربية والإسلامية من حركاتٍ تحرّريةٍ وطنية وإسلامية صادقة وغير مُزيّفة، أصبح مُدركاً للخطر الذي تمثله على مستقبل هيمنته على الدول الخاضعة لهيمنته، فبدأ في إعداد مخطط يشلّ خطرها ويصرفها عن أهدافها، لكنه فشل في تحقيق شيء مما كان يأمله، خصوصاً في إيران الإسلام، ونتاجها الثوري في فلسطين ولبنان.
لذلك اتّجه تركيزه على شعوبٍ عُرِفِت باحتضانها للقضية الفلسطينية، ومشاركتها لها في نضالها العادل بفلذات أكبادها، ولم تبخل عليها بدمٍ أو موقفٍ أو كلمةٍ، فكانت تونس وسوريا ضمنها، أما بالنسبة إلى سوريا، فباعتبارها الدولة المُتبقّية، ذات الوزن السياسي والعسكري، التي لم توقّع مع العدو اتفاق استسلام، كما حصل لمصر والأردن، ولم يعد بالإمكان توقّع ذلك منها، في ظلّ نظامٍ مبدئي بهذا الاتجاه المقاوِم، أما بالنسبة إلى تونس شريكة الشعب الفلسطيني في دمائه وآماله، في التحرّر من هيمنة الصهاينة على أرضه، فإن ما ظهر من نضال حركتها الإسلامية، في العشرينية الأخيرة من القرن الماضي، من شأنه أن يزيد من حظوظ الشعب الفلسطيني في التحرّر، ويكبّر من محور مقاومة الصهيونية، لذلك قرّر الغرب بزعامة أميركا، التخلّص من عميلها (بن علي) في تونس، لفائدة تغيير يُمرّر التطبيع مع الكيان الصهيوني، بسلاسةٍ ودهاءٍ كبيرين، وكان له ما أراد.
التخلّص من عميل وفيّ للغرب في تونس كان خياراً صعباً، وكان مُجازفة خطيرة تحملها، بعد أن أصبح مُمسكاً بيده بدائل أفضل في تقديره، ستواصل تطبيق مخطّطاته بأسلوبٍ مُغايرٍ لنمطية العملة الفردية، لتتحوّل على عمالة جماعية ( شعبية).
ويوم 14 جانفي لم يكن ثورياً، سوى في شكله المظاهِر للثورة في انتصارها، أما المحتوى وما استتبعه من أحداث وتطوّرات، فأبعد ما يكون عن الثورة وقِيَمها العالية، وبات من المؤكّد أن صفقة رجوع قادة حركة النهضة، الذين كانوا يعيشون في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وسويسرا، قد أبرمها الشيخ راشد الغنوشي، على الشروط التي وضعها الغرب، وفي مُقدّمها التخلّص من ثقافة الحركة في الثورة الإسلامية، وإنهاء التزامها بمبادئها الإسلامية، وعدم التعرّض لأيّ شكلٍ من أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني، ولو اقتضى الأمر - ودعت ضرورة البقاء في الحُكم - الموافقة على إقامة علاقات دبلوماسية مع العدو الصهيوني.
إن رضيت القيادة النهضوية بما دفعه إليها الغرب، خوفاً من أن تلقى مصير الإخوان في مصر، فهل سترضى قواعدها وقسم من كوادرها - ممَن يؤمّل أنهم لا يزالون ثابتين على مبادئهم- بمسار الانصياع لرغبات الغرب والنزول عند مراده؟ أعتقد أنه يبقى هنالك أمل، في إمكانية تصحيح المسار، ولو اقتضى ذلك تضحيات، أمل يحدوني إلى الإيمان به، طالما أن ما يجمعنا هو أكبر مما يعمل عليه الغرب في تفريقنا.