الدولة المدنية دولة المواطنة والوعي الوطني

الدولة المدنية هي اتحاد أفراد يعيشون في مجتمعٍ يخضع لمنظومةٍ من القوانين، مع وجود قضاء يُرسي مبادئ العدالة في إطار عقدٍ اجتماعي تتوافق فيه إرادات جميع أو أغلب مكوّنات وقوى المجتمع، والمدنية هنا تتأتّى من كون الإنسان كائناً مدنياً بطبعه، وبالتالي فإن القواعد التي تنظّم حياته وعلاقاته ستكون مدنية، وهو مفهوم أخذ به أرسطو وإبن سينا وإبن خلدون ومونتسكيو وغيرهم. 

أهم خصائص الدولة المدنية هو التمييز بين المجال العام والمجال الخاص

لا تزال فكرة الدولة المدنية في وطننا العربي تشهد نقاشاً واسعاً وجدالاً حادّاً بين تيارين مُتصارعين، لدرجة أنها تُثير التباساً شديداً وغموضاً كبيراً، يتوزّع بين المُدّنس والمُقدّس وبين التنديد والتأييد، وذلك لأن الخلاف حول المفهوم قاد في جزءٍ منه إلى صراعات بعضها عُنفي، لتعلّقه بالحقوق والحريات وادّعاء الأفضليات والزّعم بامتلاك الحقيقة، والسبب في ذلك كله هو المأزق التاريخي والثقافي الذي وصلت إليه الدولة العربية الحديثة ما بعد مرحلة الاستعمار بمختلف مُسمّياتها: (محافظة أو ثورية - يمينية أو يسارية - جمهورية أو مَلكية - دينية أو علمانية)، إلا أن النقاش دائماً يجب أن يعود إلى فهم فكرة الدولة أساساً، وذلك قبل توصيفاتها الأخرى، ومن حيث هي أصلاً دولة أو لا (لأنها مُهدّدة بالتفتّت)، ولها واجب حفظ أرواح وممتلكات الناس وحفظ النظام والأمن العام.

فكرة الدولة المدنية، سواء ورَدَ هذا المُصطلح أو لم يرد في أدبيات العلوم السياسية، لم يظهر على الساحة  إلا في وقتٍ متأخرٍ، وخصوصاً خلال العقود الثلاثة الأخيرة في العالم العربي، ولاسيما بعد موجة ما سُمّي بالربيع العربي، لذلك فإن هذا المُصطلح أثار ويثير مثل هذا التجاذُب والتعارُض والأخذ والرّد، وذلك لأنه لم يتم تكييفه أو توطينه بعد في دولنا ومجتمعاتنا العربية، بما يتناسب مع الخصوصية الدينية والثقافية لمنطقتنا.

الدولة المدنية هي اتحاد أفراد يعيشون في مجتمعٍ يخضع لمنظومةٍ من القوانين، مع وجود قضاء يُرسي مبادئ العدالة في إطار عقدٍ اجتماعي تتوافق فيه إرادات جميع أو أغلب مكوّنات وقوى المجتمع، والمدنية هنا تتأتّى من كون الإنسان كائناً مدنياً بطبعه، وبالتالي فإن القواعد التي تنظّم حياته وعلاقاته ستكون مدنية، وهو مفهوم أخذ به أرسطو وإبن سينا وإبن خلدون ومونتسكيو وغيرهم. 

أهم خصائص الدولة المدنية هو التمييز بين المجال العام والمجال الخاص، وعدم خَلْط الدين بالسياسة، وليس من وظائفها أيضاً مُعاداة الدين كما يذهب إلى ذلك خصومها، لكن من واجباتها وضع مسافة واحدة بينها وبين الأديان، وعدم السماح باستغلال الدين أو استخدامه لأغراضٍ خاصةٍ أو سياسيةٍ، مع تأكيد الاحترام لجميع الأديان وحق الإنسان في العِبادة وممارسة الشعائر والطقوس بحريةٍ ومن دون قيود، وذلك بما يُحدّده القانون العام الحاكِم، أي عدم التجاوز على حقوق الغير.

أما الآراء بشأن فكرة الدولة المدنية فتنقسم إلى قسمين: الرأي الأول: وهو ما أُطلِق عليه  الرأي (الإنكاري)، والذي يعتبر وجودها والإقرار بها سيُبعِد مجتمعاتنا عن الدين، كما ويعتبر هذا الرأي أن كل شيء موجود في شريعتنا بما فيه فكرة الدولة المدنية، وهو بذلك يرفض الانفتاح والتفاعُل مع التُراث القانوني والدستوري العالمي، انطلاقاً من نظرته إلى نفسه في إطار دائرته المُغلقة وارتيابه من الغير، أما الرأي الثاني: فهو الرأي (التغريبي)، والذي يعتبر التراث معوّقاً لدخول دولنا ومجتمعاتنا عالم الحداثة والتقدّم، وأنه إذا ما أردنا ولوج العالم اليوم فعلينا بالقطيعة الأبستمولوجية مع التراث والماضي، وهكذا يواجه هذا الرأي (المُتطرّف)، رأياً آخر مُغرِق في رجعيته وانغلاقه، والذي يستخدم الإسلام وتعاليمه السمحاء ضدّ الإسلام نفسه، وهو ما ندعوه (بالإسلاملوجيا)، كما هي الحال في التنظيمات الإرهابية التكفيرية، وعلى النقيض منه هو التوجّه الاستشراقي الذي نُطلِق عليه (الإسلامفوبيا)، أي الرّهاب من الإسلام وهي فكرة استعلائية ضدّ الإسلام، باعتباره ديناً يحضّ على العنف والإرهاب حسب وجهة النظر هذه.

وأياً كانت الآراء والدعوات بالإنكار أو بالتغريب أو غيرها، فإنها جميعها بعيدة عن مفهوم الدولة المدنية، التي تقوم على العقلانية واستيعاب التُراث وإسهامات المُبدعين المسلمين لتجاوز الإنكارية والإقصائية الاغترابية في آن واحد، وهو الأمر الذي يحتاج إلى تطوير النقاش بشأن بعض قواعد الحُكم في الإسلام، سواء ما يتعلّق بمبادئ الشورى والاستخلاف والبيعة وأهل الحلّ والعقد، وصولاً إلى الديمقراطية وقواعدها العامة ومُراعاة الخصوصيات واحترام الهويات.

كما أن المفتاح الأساسي بالنسبة للفرد كي تستقيم علاقته بالدولة، هو بتفعيل المواطِنة الحاضِنة للتنوّع الديني والثقافي، وتحفيز الأغلبية الصامِتة كي تنهض بدورها الإيجابي، فالمواطن العقلاني المستقلّ يتم بناؤه من خلال تحفيز المشاركة أو الممارسة السياسية وتعميق ثقافة التسامُح الفكري المُتبادَل، وتشجيع روح المُبادرة بما يعزّز الثقة بين المواطن والدولة، بحيث يقف الوعي الوطني والتمسّك بالواجبات المدنية والوطنية في مواجهة المصالح الطائفية والحزبية المحدودة.

فالدولة المدنية يكون فيها الدستور والنظام السياسي مصدرين للاستقرار والمرونة والقدرة على الاستمرار، وتكون مجتمعاتها مؤسَّسة على القواعد الأخلاقية والدينية، وذلك من خلال إعلاء دور القانون واحترام التنوّع الديني والثقافي وتحقيق المُساواة والعدالة بين المواطنين.

لهذا فلا بدّ للدولة من أن ترقى إلى تحقيق مفهوم الصالح العام من خلال إدارة الشأن العام، والعمل على التنمية الاقتصادية لتجسير الفجوة بين الواقع والطموحات، وإقامة نظام اقتصادي مُتوازِن ونظام اجتماعي عادِل، والتي هي أساس التنمية السياسية، فالدولة التي تخفق في بناء نظام اقتصادي فاعِل وعادل لن تحظى بمجتمعٍ مدني يُحترَم فيه القانون ويُصان فيه المال العام، كما يجب أن تعمل على تعزيز قِيَم التشارُكية والشفافية والرقابة القانونية والأخلاقية والشعور بالمحاسبة، وتحفيز القدرة على التخيّل والإبداع في التفكير بما يحقّق الصالح العام.

هذا ويجب أن تنهض مؤسّسات المجتمع المدني والعمل التطوّعي الإنساني بدورٍ كبيرٍ وفاعلٍ في تعزيز قوّة الدولة المدنية، وذلك إلى جانب مؤسّسات الدولة الرسمية الأخرى، وألا يقتصر هذا الدّعم والتفاعُل على المستويين الاقتصادي والاجتماعي فحسب، وإنما يجب أن يمتد ليشمل الدفاع عن الحقوق والحريات وتعزيز قِيَم المواطِنة والعمل المدني.

كما ولا بدّ من أن نستثمر مفهوم الأمّة (العربية والإسلامية) وهويتها الحضارية في سعينا نحو تحقيق التعارُف والتكامُل مع مُنجزات الأمم الأخرى، بما يمكّننا من بناء مجتمعٍ مدني قادِر على تحقيق التنمية والتقدّم والازدهار، كما أن الحديث عن أهمية المُعتقدات الخاصة بنا لا يُبرّر أبداً التقصير في العمل أو الإخفاق في تحقيق التقدّم والنماء، حيث إن اكتشاف الأخطاء والاعتراف بها هما خطوتان أوليّتان نحو تصويب أوضاعنا وأخطائنا والشروع في التقييم الذاتي الشامل (بدلاً من مديح الذات)، إضافة إلى التمسّك بقوّة العقل والأفكار وتقوية الديمقراطية وتعزيز القِيَم المُتأصّلة في ثقافتنا الدينية والأخلاقية، بما يمكّننا من مواجهة التحديات الكبرى والارتقاء إلى المكانة التي نستحقّها بين الأمم.

هذا ولا يمكن التصدّي للفكر المُتطرّف وخطاب الكراهية الفوضوي والتدميري من دون وجود الفكر التنويري الرصين الذي يقضي على الجهل والتجهيل المُمنهَج، ويضع العرب والمسلمين في المكانة التي يستحقونها فكراً وعملاً وحضارة، والذي يستند إلى قِيَم التسامُح الفكري والتعدّدية واحترام الاختلاف والانفتاح على الثقافات الأخرى (من دون أن ننسى التمسّك باستقلالنا الثقافي)، وتعزيز التكامُل والتعاون وترسيخ ثقافة العمل والإنتاج وتوطين التكنولوجيا لخدمة تطلّعات مستقبل الأجيال القادمة، وتجنّب تداعيات الاقتصاد الرَيعي وأخطار الإقصاء والتهميش، وإحلال مبدأ المُشاركة بين دول الإقليم لإيجاد عوامل مشتركة ضمن جميع القطاعات، بحيث يتحقّق التكافُل الفكري المُستنِد إلى القِيَم المُشتركة والتعدّدية والتسامُح والتعايُش الإنساني، فمن دون تنمية اقتصادية واجتماعية وسياسية لن يُكتَب للجهود الأمنية والعسكرية النجاح في مواجهة التطرّف والإرهاب.