هل طوِي ملف تصفية خاشقجي؟
فهل تتحوّل تركيا إلى وجهة غير آمنة للصحافيين والمعارضين مستقبلاً، بما أنها حسب البعض مُستعدّة للتنازل ومُداهنة المُتورّطين الحقيقيين وعقد التسويات والصفقات، مركّزة على مصلحتها الضيّقة غير مُكترِثة للمبادئ، على خلفية جريمة خطيرة مثل مقتل الصحافي خاشقجي؟ أم تنتصر وتجمع بين كسب نقاط سياسية ودبلوماسية وانتصار أخلاقي؟
كان أردوغان منذ البداية حذِراً عند أول اتصال مع الملك سلمان، ثم بعدها مع ترامب. يحتفظ بلغة دبلوماسية، ويجمع بين إدانة جريمة تصفية الصحافي خاشقجي، والقول بأن السعودية صديقة وشقيقة. رغم تضارب روايات هذه الأخيرة، وارتباكها الواضح والهواية التي بدت على أجهزتها وتصريحاتها وتعامل إعلامها.
1- الداخل العثماني: قَلّ مَن يُلمّ بتفاصيله بدقة ومعطياته، حين تم تسجيل تراجع عدد من الشخصيات بحزب العدالة والتنمية التركي إلى الوراء منذ سنوات، ووقوع تغييرات داخلية كبيرة داخل الحزب، ما جعل أردوغان في خطابه الأخير وهو يتوعّد بكشف الحقيقة أن يوجّه كلماته أمام أعضاء حزبه، ككيانٍ حاكم يعتمل كأيّ تنظيم يمارس السلطة ويشهد تحوّلات وتغييرات.
- تمتّع أردوغان بعد التعديل الأخير بصلاحيات واسعة كرئيس مُنتخب، انتقدها كثيرون يختلفون مع التجربة ويتربّصون بها. ولازال التخوّف قائماً حتى في أوساط بعض المُنصفين، من أن تتحوّل إلى استبداد بلبوس ديمقراطي. كما يمكن تسجيل غياب معارضة تركية داخلية قوية قد تنافس الحزب في الاستحقاقات المحلية المقبلة، ولو بعد إعلان كتلة حزب الحركة القومية على لسان دولت هشتلي والذي أعلن نيّته صراحة عدم رغبة التحالف مع العدالة والتنمية في الاستحقاقات في مارس/آذار المقبل. معارضة وقوى كان من الممكن أن تطالب باحترام السيادة التركية وتقديم الجناة المتورّطين في تصفية الصحافي خاشقجي إلى المحاكمة.
2- العلاقة مع العالم العربي: أصبحت رمزية أردوغان قاب قوسين بالعالم العربي، وكثير من المُتتبّعين منهم، ينتظرون نتائج ملف خاشقجي رحمه الله، حتى لو بدت مؤشّرات كثيرة قد حدّدت مسارات واضحة وسيناريوهات يسهل على ذوي الاختصاص التدقيق فيها. بدت نسبة الثقة تتراجع بعد خطاب الثلاثاء المشهور.
ومنهم من اعتبر أن الرجل قد خيّب الآمال ولم يفصح عن أيّ جديد. وبالرغم من كل هذه الانتقادات والملاحظات، لا يمكن إنكار أن تركيا نجحت بالخروج من أزمة خانقة كادت أن تعصف بالبلد. يجب الاعتراف أنه بميزان الفعّالية السياسية والميكيافيلية، أدارت الإدارة التركية التي تصاحب أردوغان الملف بحنكة. فقد أرغمت بن سلمان على التراجع وأدّبته بلغةٍ هادئةٍ وقانونيةٍ وأدخلته حال رعب لم تنته بعد، وحافظت على علاقتها مع السعودية. وشكّلت الواقعة فرصة لتغيير حسابات المنطقة على أكثر من صعيد لازالت تطوّراتها جارية، وسارعت الكويت في الأيام الأولى لأزمة مقتل الصحافي خاشقجي إلى عقد صفقة تعاون مع إسطنبول ثم تلتها أخرى مع الأردن هذه الأيام.
وترتّبت عن التصعيد الإعلامي والسياسي الدولي اصطفافات جديدة وتحالفات وإدانة واسعة لاذِعة، هدّدت ظاهرياً بمعاقبة السعودية وتقديم الجناة إلى المحاكمة حتى لو اقتضى الأمر دولياً كما عبّر عن ذلك ماكرون بآخر اتصال مع ابن سلمان، أيّده قرار صدر اليوم الخميس 25 تشرين الأول/أكتوبر 2018 يطالب بتحقيق دولي وتقديم المجرمين إلى المحاكمة لمعاقبتهم وتوقيف صفقات السلاح مع السعودية.
وقبله أعلن عدد من الشخصيات الوازنة اقتصادياً واستثمارياً مقاطعتها "أزيد من 30" مؤتمر الرياض، المنعقد هذه الأيام، من دون أن تنسحب كل الوفود الأوروبية والأميركية، والتي حافظت على قنوات تواصل رغم موجة الغضب الغربي الذي لا يؤتمن والمُرتهن بقيمة الدفع لا بقِيَم ومبادئ كما هو معروف، والذي حافظ طيلة هذه الفترة ولازال على لغة حذِرة وكلمات مختارة بعناية ودبلوماسية بمفاهيم مُحدّدة ومضبوطة، ارتهن التصعيد فيها بتوازنات داخلية وبما يعتمل داخل هذه الدول من ضغوط إعلامية وسياسية، كما هي الحال في السياق الأميركي المقبل على انتخابات تجديد نصف الكونغرس. واستغلّت روسيا الفرصة لتستفيد من الوضع القائم والمُستجدات على الساحة الدولية، حيث حضرت أزيد من 30 شخصية ممثلة لعدد من القطاعات إلى الرياض لعقد عددٍ من الصفقات، مقابل صمت مُطبَق من جانبها كلاعبٍ كبيرٍ في الساحة الدولية، والاكتفاء بمتابعة الأحداث وانتظار القضاء.
3- تطوّرات ملف خاشقجي: مع توالي الوقائع التي تلت خَرْجَة بن سلمان عشيّة الأربعاء 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2018، الذي غازل وتوعّد وتودّد، أرعدَ وأزبدَ فيمن اعتبرهم قتلة لينفي التهمة عن نفسه، ويُعيد إمساك زمام الأمور من جديد ويستعيد المبادرة، حاول معها كذلك أن يرسل إشارات إلى أطرافٍ كان يكّن لها العداء قبل الواقعة، كقطر الذي أشاد باقتصادها فجأة، بعد أن قام الجبير، في وقتٍ سابقٍ أثناء أزمة ملف خاشقجي، كوزيرٍ للخارجية بزيارةٍ خاطفة للدوحة. تحالفات وعلاقات واصطفافات منها المؤقت المصلحي الذي أفسح المجال لإطلاق سراح القسّ الأميركي، ووعود برفع العقوبات، وعودة العلاقات الأميركية التركية إلى نوعٍ من الهدوء نسبياً، ومنها الاستراتيجي الذي لم يتغيّر كدفاع ترامب عن "المؤدّي للخدمات" بن سلمان. الرئيس الأميركي الذي دفع بمديرة السي آي إي إلى تركيا للاطّلاع على كل الأدلّة التي تتوافر عليها أنقرة، والذي ترك مجالاً للمناورة حين شرّع الباب أمام الكونغرس لمتابعة الملف واتّخاذ ما يلزم لعدد من الأسباب.
4- السؤال المطروح عقب خطاب أردوغان يوم الثلاثاء: لماذا لم يتقدّم المدّعي العام التركي للحديث عن تطوّرات الملف وتفاصيله بدل الرئيس التركي احتراماً لاستقلالية مؤسّسة القضاء؟ ثم هل تجمع تركيا بين احترافية السياسة الدولية والبرغماتية والمكاسب التي ربحتها بالتوازي مع الانتصار للحد الأدنى من المبادئ والقِيَم بمتابعة المتورّطين جميعاً في مقتل خاشقجي؟
تركيا رسمياً تركت الملف مفتوحاً، ولديها كل الحِجَج والدلائل منذ البداية طبعاً، وتركت الأمور للتطوّرات وللتحرّكات والاتصالات والتسويات التي ستقدّم من أكثر من جانب وعلى أزيد من صعيد خاصة لمحورية السعودية بالمنطقة وتأثير علاقاتها وتصريحاتها، وبقي السؤال مفتوحاً: هل تكمل تركيا وعدها بمتابعة ملف خاشقجي إلى النهاية والحرص على معاقبة الجناة؟
ولا عيب في تحقيق مصالحها وكسب معاركها إقليمياً ودولياً بعدما عانت كثيراً وحوصِرت من أكثر من جانب، لكن ليس على حساب الدم وجثة خاشقجي!
- المستفيدون: قطر وتركيا وترامب وبقية الجوقة الغربية الذين التقطوا اللحظة باحترافية ودخلوا في الدور منذ أول لحظة، والتحق الاتحاد الأوروبي بعد ذلك.
- الخاسرون: السعودية فقدت نسبياً صورتها بالمنطقة واهتزّت الثقة بعدما وقعت في أسوأ الأخطاء على الإطلاق، ومن معها من الصف العربي المُهترئ الذين صفقّوا لروايتها منذ أول وهلة ولازالوا.
الصامتون والمراقبون للوضع من بعيد: منهم المغرب الذي ظلّ صامتاً، واكتفى بالقول إن الملف بيد القضاء على لسان الناطق الرسمي للحكومة، ولم يترتّب على زيارة وزير الداخلية السعودي للمغرب أيّ موقف واضح ومُعلَن، ثم إيران وآخرون رأوا أن خصمهم يخنق نفسه بنفسه ويرتكب الأخطاء، فلم يدخلوا على خط الأزمة، إلا بعد بدء اتصالات بن سلمان وأردوغان وعدد من الأطراف الأوروبيين، فكانت هناك خرجة لروحاني يوم الخميس 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2018، قصف من خلالها خصمه اللدود، وأحرج الأوروبيين والأميركيين ودعا تركيا لمواصلة التحقيق إلى النهاية.
أما إسرائيل صاحبة صفقة القرن، والتي كانت تعدّ لحلفٍ دولي ضدّ إيران، لاشك غيّرت مُعطياتها وخططها على الأقل بالمرحلة الحالية كما أوردت ذلك نيويورك تايمز.
أخلاقياً، تركيا قد تخسر رمزيّتها عند الإسلاميين خصوصاً وبالمنطقة العربية، وأهدت مُنتقدي تجربة أردوغان مجالاً للتحليل والتأويل حين لم تحسم بعد ملف خاشقجي كما وعدت، وتوقف زخم التسريبات الإعلامية إلى المنابر الدولية فجأة، وبقيت نقطة تفتيش بئر يرفض الجانب السعودي لحد الآن تنفيذه. فيما خرج الجانب السعودي برواية جديدة تؤكّد على وجود نيّة مُسبقة في القتل ما يضرب مرة أخرى رواية الشِجار والإنكار أول مرة.
فهل تتحوّل تركيا إلى وجهة غير آمنة للصحافيين والمعارضين مستقبلاً، بما أنها حسب البعض مُستعدّة للتنازل ومُداهنة المُتورّطين الحقيقيين وعقد التسويات والصفقات، مركّزة على مصلحتها الضيّقة غير مُكترِثة للمبادئ، على خلفية جريمة خطيرة مثل مقتل الصحافي خاشقجي؟ أم تنتصر وتجمع بين كسب نقاط سياسية ودبلوماسية وانتصار أخلاقي؟
فهل طويَ ملف خاشقجي بتسويات، أم لازال في الجعبة التركية ما يسمح لها بالمناورة والتصعيد وتحقيق الميزان السياسي مُسيّجاً بحدٍ أدنى أخلاقي؟