مطالب معيشية ومحاولات تخريب مدسوسة في البصرة
جاء إحراق القنصلية الإيرانية ومقار "الحشد الشعبي" المدعوم من إيران في البصرة، إضافة إلى الشعارات التي رفعها المُحتجّون "كدعوتها للخروج من العراق" وإحراق أعلام الجمهورية الإسلامية، ليسلّط الضوء على حجم التورّط الإسرائيلي ــ الخليجي في مشروع إضعاف النفوذ الإيراني في العراق ومحاولات ضربه التي بدأت منذ سنوات خلَت.
الاحتجاجات التي اندلعت في البصرة وحملت عناوين معيشية بالرغم من أحقيّتها ومشروعيّتها، لم تكن مُجرَّد فورة غضب على تردّي الوضع الاقتصادي، بل إن ثمّة جهات (عربية) دفعت أموالاً طائلة لاستهداف إيران من بوابة البصرة نظراً إلى موقعها الجغرافي المُحاذي للحدود الإيرانية وما قد يُتيحه هذا القُرب من فرصةٍ لاستخدامه في إعمالٍ عدوانيةٍ أو تخريبيةٍ داخل الجمهورية الإسلامية.
جاء إحراق القنصلية الإيرانية ومقار "الحشد الشعبي" المدعوم من إيران في البصرة، إضافة إلى الشعارات التي رفعها المُحتجّون "كدعوتها للخروج من العراق" وإحراق أعلام الجمهورية الإسلامية، ليسلّط الضوء على حجم التورّط الإسرائيلي ــ الخليجي في مشروع إضعاف النفوذ الإيراني في العراق ومحاولات ضربه التي بدأت منذ سنوات خلَت، وتصاعدت وتيرتها في الآونة الأخيرة، لاسيما مع انتهاء صلاحية ورقة "داعش" في سوريا والعراق وتحرير مدينة الموصل وسيطرة الجيش السوري وحزب الله وحلفائهم على مدينة البوكمال على الحدود السورية ـــ العراقية، وانتشار عناصر الحشد الشعبي في الأراضي العراقية والسورية.
رأت تل أبيب في هذا الأمر تحوّلاً استراتيجياً خطيراً لا بدّ من مواجهته، خصوصاً بعدما تم فتح طريق بغداد ــــ دمشق ــ بيروت من جديد والذي تعتبره "إسرائيل" الشريان الرئيس لإمدادات "حزب الله" بالسلاح. إذ كشفت الاستخبارات الإسرائيلية عن أن إيران عملت على إصلاح طريق (M20) الذي يربط دير الزور بتدمر ويمتد على مسافة 200 كلم، وهو يمثّل الخطوة الأولى من مشروع إيراني يهدف إلى استكمال الممر البري العابِر للحدود من طهران إلى البحر المتوسّط عبر سوريا والعراق، والذي ينطلق من مدينة البوكمال باتجاه بغداد عبر الطريق السريع ليربط بغداد بالشرق، وتدمر مع دمشق غرباً.
ترى "إسرائيل" أن النجاح الإيراني في إعادة تشغيل الجسر البري الحيوي الذي يربط طهران ببغداد بدمشق وبيروت والبحر المتوسّط، والذي كان تمّ قطعه غداة سيطرة "داعش" على الموصل في العام 2014، سيجعلها مُحاطة بما تصفه ب"الميلشيات الإيرانية"، ومُحاصَرة اقتصادياً وعسكرياً من الشمال والشرق والجنوب، الأمر الذي يُحتّم عليها التحرّك لكَسْر هذا الطوق قبل اشتداد عوده.
في تموز 2018 تحدّث تقرير أمني أميركي عن وجود خطّة عربية ــ إسرائيلية لإضعاف إيران، والعمل على (إسقاط نظامها)، إذ كشف التقرير أن رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي غادي آيزنكوت، عيَّن الميجر جنرال نيتزان ألون القائد السابق لفرع العمليات في الجيش الإسرائيلي ليرأس "هيئة مواجهة إيران"، والتي تتمتّع بدعمٍ استخباراتي ــ مالي من قِبَل بعض دول مجلس التعاون (وفي رأسها السعودية) للإطاحة بالنظام الإيراني.
ووفــقــاً للتقرير فــإن الخطّة تتضمَّن ستة بنود رئيسة هي:
1 ـــ إنهاء النفوذ الإيراني في بغداد.
2 ـــ القضاء على الوجود العسكري لإيران و"حزب الله" في سوريا.
3 ـــــ مُلاحقة "الحركات الشيعية المُتطرِّفة" التي أنشأتها إيران في بعض دول مجلس التعاون.
4 ـــ تحريض العرب الأحوازيين للتمرّد على النظام الإيراني.
5 ـــ تأجيج الاضطرابات في المحافظات ذات التواجد الــكــردي (غــرب أذربيجان وكردستان وكرمانشاه وحمدان وشمال خورستان) والتي يقطنها أكثر من مليون كردي.
6 ـــ تكليف اســتــخــبــارات هـــذه الــــدول بتعقّب العمليات السرّية لإيــران و"حــزب الله" في الخارج، والعمل على كشفها.
ووفقاً للتقرير فــإن المشروع سار وفــق الخطّة المرسومة له، حيث تم ضخّ مليارات الدولارات منذ الانتخابات العراقية الأخيرة لمنع تشكيل حكومة دُمى بيد الإيرانيين في بغداد، كما جرى بـــذل جــهــود كــبــيــرة لدعم حركات التمرّد في اقليم خوزستان العربية، إذ كشفت مصادر استخبارتية غربية أن زعيمي "الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني" مــصــطــفــى هــجــري، وحــزب "كـــومـــالا" عبدالله مهتدي، أمضيا شهر حزيران الماضي في واشنطن وحظيا بترحيبٍ حارٍ من الإدارة الأميركية التي تُراهن على هاتين الشخصيتين لتزعّم حركة مقاومة وطنية كردية في مواجهة النظام في طهران.
لكن مهارة الإيرانيين في حياكة السجّاد، قابلتها براعة لافِتة في إحباط إعادة العراق إلى المعسكر الأميركي ــ الخليجي، ففي الوقت الذي هلَّلت فيه الدول الخليجية عبر وسائل إعلامها لنظرية خسارة "إيران في العراق" عقب فوز لائحة الصدر بأكبر عددٍ من المقاعد في الانتخابات النيابية الأخيرة، نجحت إيران في إعادة الأقطاب العراقيين إلى بيت الطاعة من جديد، وهو ما ظهر غداة إعلان تشكيل تحالف جديد بين ائتلاف "سائرون"، الذي يدعمه، زعيم "التيار الصدري" مُقتدى الصدر وائتلاف "الفتح" (المُكوَّن من أذرعٍ سياسيةٍ لفصائل "الحشد الشعبي") الذي يقوده هادي العامري، لتشكيل الحكومة العراقية المقبلة مع بعض التيارات الحليفة لإيران.
شكَّل هذا الأمر نكسةً لجهود الولايات المتحدة والسعودية ، اللتان بذلتا جهوداً كبيرة لإقــنــاع مُقتدى الــصــدر بتشكيل ائتلاف يضمّ رئيس الوزراء حيدر العبادي وعمّار الحكيم.
أما الصفعة الأخرى التي وجّهتها طهران لمحاولات ضربها أمنياً، فتمثّلت باستهداف الوحدة الجوية التابعة للحرس ووحدة طائرات مسيرة تابعة للجيش، مقرّ اجتماع قادة جماعة إرهابية مُعادية لإيران في قضاء كويسنجق التابع لأربيل خلال اجتماع لكوادر الحزب، ومركزاً تدريبياً عسكرياً، بسبعة صواريخ أرض أرض قصيرة المدى، ما أوقع 16 قتيلاً و40 جريحاً، استتبعته إيران بتوغّل لقطعات عسكرية إيرانية داخل قرى وبلدات عراقية في اقليم كردستان العراق، وفقاً لمسؤولٍ في "قوات البشمركة" قال إن تلك" القطعات الإيرانية استقرّت في جبل سورين الاستراتيجي البالغ ارتفاعه أكثر من ألفي متر، ويُشرف على مدينتيّ السليمانية وحلبجة بشكلٍ مباشر.
لا شكّ أن الخطوة الإيرانية لن تكون الأولى أو الأخيرة، مع الفارِق أن المكان سيكون مختلفاً تبعاً لمُحدَّدات لعبة شدّ الحبال الأميركية ــ الإيرانية القائمة والتي كان آخرها ما "ذكرته صحيفة سليت الأميركية عن "قيام إيران بإرسال الصواريخ الباليستية إلى الميليشيات الشيعية المُتحالفة معها في العراق. وتتمتَّع هذه الصواريخ بالمدى اللازِم لضرب إسرائيل، والمملكة العربية السعودية، والقوات الأميركية في المنطقة".
"إسرائيل" التي يؤرقها النفوذ الإيراني في بغداد قد لا تكون بعيدة عن هذه المعلومات بهدف تقديم ذريعة لمهاجمة مواقع إيران العسكرية في العراق، وما يعزّز هذا الأمر أنه تزامن مع ما نقلته شبكة (CAN) الإذاعية العامة الإسرائيلية، عن أن "المسؤولين الأميركيين غمروا تل أبيب بضوءٍ تحذيري أحمر كبير، وقالوا لمسؤولي الدفاع الإسرائيليين: "اتركوا أمر العراق لنا". أما هذه العبارة فقادم الأيام كفيل بتوضيح مغزاها وأهدافها.