ليس دفاعاً عن حركة النهضة
نجاة تونس وكل العالم العربي إنما تكون بنبذ الخلافات والتوحّد حول مشروع إنقاذي واحد بعيد عن إملاءات الغرب وشروط البنك الدولي، و"إصلاحات التخريب" لصندوق النقد الدولي، والعمل على إنتاج مشروع وطني سياسي- اقتصادي- اجتماعي.
مسارات خطاب حركة النهضة التونسية منذ تأسيسها ( حركة الاتجاه الإسلامي) وخطاب قياداتها الأوائل المُتمثّلة براشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو وأحميدة النيفر، تشير إلى تغييرات جذرية تتعلّق بأدبيات المؤسّسين، سواء منها الأدبيات الدينية أو السياسية. على أن التغيير الأكبر الذي طرأ على خطاب الحركة جاء بعد ثورة ك1/ ديسمبر 2010.
لقد كان الانعطاف الكبير في تاريخ الحركة هو فوزها في انتخابات تشرين أول/ أكتوبر 2011، لكن ذلك لم يمنعها من مشاركة الحُكم في إطار ما عُرِفَ بالترويكا ضمن حكومتين مُتعاقبتين هما حكومتا حمادي الجبالي وعلي العريضي القياديان في حركة النهضة، حتى انتخابات تشرين أول/ 2014، حين حلّت الحركة بالمركز الثاني وشاركت في حكومة الحبيب الصيد ويوسف الشاهد(الحالية).
قد يُرجِع البعض تطوّر الخطاب "النهضوي" لما شهدته الساحة العربية من تطوّرات، وعلى رأسها السقوط المدوّي للإخوان المسلمين في مصر، وأن التطوّر "المزعوم" اقتضته ضرورات ما بعد "السقوط الاخواني المصري" لا "القناعة النهضويه"، إلا أن هذا الادّعاء، على فرض صحّته، يصبّ في مصلحة النهضة لا ضدّها؛ لأنه يُشير إلى قيام الحركة بتقديم المصلحة التونسية على حساب المصلحة الحزبية، وأن هذا "التجديد" في الخطاب قد أنجى تونس من السقوط. وإن كان يحلو للبعض القول إن تونس ربما نجت من السقوط في الفوضى الأمنية لكنها لم تنجُ من السقوط الاقتصادي، فإنه من الموضوعية بمكان عدم تحميل هذا السقوط الاقتصادي لحركة النهضة، وأن ما تعانيه تونس تعود جذوره لحقبة ما قبل "الثورة"، وإن كان أداء ما بعد "الثورة" لم يكن مُلائماً ولا هو ينسجم مع تطلّعات الشعب التونسي وطموحاته، لكن ذلك لا تتحمّله حركة النهضة، كما لا يعفيها من ضرورة لعب دور إنقاذي أكثر مما تقوم به الآن، ولا يعفيها أيضاً من أنها ترتكب نوعاً من "المبالغة" في "لبرلة" ( من الليبرالية) الخطاب الاقتصادي لا سيما المتعلّق منه مع الغرب وأدواته الاقتصادية والمالية. ومع ذلك فإننا لا يمكننا تحميل الحركة وحدها مسؤولية "السقوط" الاقتصادي خاصة وأن الكثير من المُنتقدين لم يقدّموا حلولاً أو برامج اقتصادية واجتماعية إنقاذية بقدر ما قدّموا خطابات وشعارات ، تُذكّرنا بمرحلة بائِدة من الجماعات التي أغرقت الساحة في متاهات الجدالات المفاهيمية والاصطلاحية البعيدة عن الحلول العملية والواقعية.
وبالعودة إلى "الخطاب النهضوي" فإنه يُسجّل للنهضة تطوّر خطابها السياسي الواضح والذي لم يقتصر على الخطاب بل تعداه إلى الفعل، وقد برز ذلك في قبولها للآخر ومشاركتها للحُكم معه بل وعدم ترشيح أحد قياداتها للرئاسة التونسية ( رغم الاحتمال الكبير في قدرتها على إيصاله) رغم حقّها في ذلك، أسوة بأيّ حزب أو شخصية تونسية.
كما لا يمكننا أن نمرّ مرور الكِرام على قيام رئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشي على الترحّم على الرئيس الراحل "الحبيب بورقيبة" (مع ما يعنيه ذلك في الأدبيات الإسلامية) والذي وإن كان رمزاً من رموز مقاومة الاستعمار إلا أنه أيضاً رمز من رموز "علمَنة تونس".
وفي المقابل، يعمد "بعض العلمانيين" لتوجيه النقد بشكلٍ عشوائي لحركة النهضة في خطاب لا يقلّ إقصائية عن الخطاب "الإسلاموي المُتشدّد". ولئن كان هؤلاء يحملون على كل "الإسلام السياسي" بأنه إقصائي ( ولا نوافق على التعميم)، فإن أداء هؤلاء "العلمانيين" ليس بأفضل حال.
إن مقتضى الموضوعية، بل والحنكة السياسية، هو في شدّ اليد والثناء على تطوّر خطاب "النهضة" لا التشنيع عليه، ودفعهم نحو المزيد منه لا ممارسة الابتزاز معه.
والحقيقة إن حركة النهضة في وضع لا تُحسَد عليه، فهي تقع بين سندان "بعض مُتطرّفيها" ومطرقة بعض "العلمانيين". ففيما بعض "الداخل الحزبي" يتّهم قيادته بازدياد منسوب الخطاب الليبرالي عنده، يتّهمها بعض "خارج الحزب" بالسعي "لأسلَمة تونس" بناء على إرث أدبي قديم يعود لفترة "الخطابات الثورية" في سبعينات وثمانينات القرن الماضي.
فلنقلها صراحة وبكل شفافية، إن نجاة تونس وكل العالم العربي إنما تكون بنبذ الخلافات والتوحّد حول مشروع إنقاذي واحد بعيد عن إملاءات الغرب وشروط البنك الدولي، و"إصلاحات التخريب" لصندوق النقد الدولي، والعمل على إنتاج مشروع وطني سياسي- اقتصادي- اجتماعي، وتونس، بلا شك، لديها الكفاءات والعقول القادِرة على إنتاج ذلك. ولتكن المحاسبة على أساس الخطاب والسلوك الحاليين لا أدبيات الماضي "الثورية"؛ لأن العودة إلى "أرشيف" كل حزب أو سياسي سيجعل الجميع، ربما، تحت مقصلة الاتهام، ولن ينجو من هذه المقصلة أحد.
وعلى أية حال، إن كان لا بدّ من محاولة لتشبيه وضع حركة النهضة مع بعض معارضيها، فإنه سيكون مع وضع هذه المقالة، والتي وإن كانت لن تنجو من نقد بعض قواعد "حركة النهضة" لأنها ستعتبرها تحتوي على نقدٍ مُبطّن ، فإنها لن تنجو أيضاً من مُعارضي النهضة لأنها ستعتبرها دفاعاً عنها. والحال إنها مجرّد رأي ليس دفاعاً عن النهضة ولا هجوماً.