الحماقة مدرسة أميركية
أميركا تحاول جاهدة منع انهيار نظام عالمي وحيد القطبية الذي تترأسه و منع قيام نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب. هي تحاول إنقاذ نظامها الاقتصادي النيوليبرالي المأزوم الذي عولم الفقر والأزمات، بالحروب وزع الفتن والفوضى للهيمنة على مقدّرات الشعوب وثرواتهم. ومن العبث ترك أميركا ترامب تقرّر مصير العالم ومستقبل البشرية كما تشاء.
منذ دخول ترامب إلى البيت الأبيض، والإدارة الأميركية تتّخذ القرارات الصادِمة نذكر منها كمثال:
⁃ القرارات المتعلقة بهجرة مواطني بعض الدول الإسلامية
⁃ الانسحاب من اتفاقية باريس حول المناخ
⁃ نقل السفارة الأميركية إلى القدس
⁃ الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وفرض عقوبات عليها
⁃ تهديد بفرض عقوبات على الدول والشركات التي لن تتماهى مع العقوبات الأميركية على إيران
⁃ فرض ضرائب على الصلب والأليمنيوم المستورَد ، وفي هذا إعلان حرب اقتصادية على حلفاء أساسيين لأميركا
قرارات ترامب وفريقه تُنزَّل ببلطجة وتحامُق غير عابئين بالتزامات أميركا الدولية ولا بالنتائج وانعكاساتها على مكانة الولايات المتحدة كقوّة عُظمى من المفروض أن تكون االنموذج في احترام القانون الدولي.
الاحتقار والحمق الذي تعامل ترامب مع بعض الحكّام الخليجيين، لا توازيه إلا الصلافة والحمق الذي عبّر عنهما مهندس السياسة الخارجية الأميركية هنري كيسينجر في مقابلة له نشرت في 15فبراير 2013 مع الصحافي ألفريد هاينز من موقع www.Dailysquib.co.uk تحت عنوان:
Henry Kissinger: "If You Can't Hear the Drums of War You Must Be Deaf.
أورد ألفريد هاينز نقلاً عن كيسينجر قوله :
⁃ استعدوا، إسرائيل ستحرق الأخضر واليابس
⁃ لقد أبلغنا الجيش الأميركي إننا مضطرون لاحتلال سبع دول في الشرق الأوسط نظراً لأهميتها الاستراتيجية لنا…ولم تبق إلا خطوة واحدة، وهي ضرب إيران وعندما تتحرّك الصين وروسيا من غفوتهما سيكون "الانفجار الكبير"والحرب الكبرى التي لن تنتصر فيها سوى قوّة واحدة هي إسرائيل وأميركا وسيكون على إسرائيل القتال بكل ما أوتيت من قوّة وسلاح لقتل أكبر عدد ممكن من العرب
⁃ طبول الحرب تدقّ الآن في الشرق الأوسط وبقوّة ومن لا يسمعها فهو بكل تأكيد أصمّ
⁃ إذا سارت الأمور كما ينبغي، فسيكون نصف الشرق الأوسط لإسرائيل
⁃ إيران ستكون المسمار الأخير في النعش الذي تجهّزه أميركا وإسرائيل لكلٍ من إيران وروسيا بعد أن تم منحهما الفرصة للتعافي والإحساس الزائِف بالقوّة وبعدها سيسقطان وللأبد لنبني مجتمعاً عالمياً جديداً لن يكون إلا لقوّة واحدة وحكومة واحدة هي الحكومة العالمية "السوبر باور" وقد حلمت كثيراً بهذه اللحظة التاريخية.
سيقول قائل بأن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عن مجنون. وأقول، كيسينجر ليس أحمق بل يتحامق وهذا ليس جديداً عليه . فقد أورد الكاتب الصحافي الكندي مايكل ماكلير في كتابه "حرب العشرة آلاف يوم" خصّصه للحرب الفيتنامية أن : "كيسينجر كان يمارس "نظرية الرجل الأحمق " في سياق العملية التفاوضية مع الفريق الفيتنامي الشمالي في باريس، الذي كان يرأسه "لي دوك تو" فعندما كانت المفاوضات تصل إلى نقطة يتصلّب عندها الفريق الفيتنامي، كان كيسينجر يطلب تعليق العملية... و يختلي مع "لي دوك تو"، ليقول له مُتقمّصاً دور الرجل الطيّب: أحب أن تعرف أن ذلك الرجل الجالس في البيت الأبيض (يعني الرئيس نيكسون) مجنون!، ولولا أنني أقوم بتهدئته من حين لآخر لأمَرَ بتسوية فيتنام كلها بالأرض!…الآن وقد أوصلتم التفاوض إلى طريق مسدود فإن هذا الرجل عندما يبلغه الخبر سوف يجنّ جنونه، إنه قطعاً سوف يأمر باستئناف القصف الجوي على مدنكم… إنني أنصحكم بالمرونة وإبداء قدرٍ من التنازل حتى أتمكّن من تهدئة ثائرة ذلك الرجل!".
فما هي "نظرية الرجل الأحمق" هذه ؟
لقد نسبها شومسكي، في كتابه " الدولة المارقة " للرئيس نيكسون الذي لخّصها في ما يلي: "يجب أن يعرف أعداؤنا أن الجنون مسّنا ، ولا يمكن التنبوء بما سنفعله بقوة تدمير فائقة للعادة تحت إمرتنا، وهكذا سوف يركعون لإرادتنا خائفين" .
هذه الدعوة إلى التحامق، يقول شومسكي، ستبرز في دراسة سرية قامت بها القيادة الاستراتيجية الأميركية، المسؤولة عن الترسانة النووية الاستراتيجية سنة 1995 وسُمّيت ب" أساسيات الردع ما بعد الحرب الباردة ". وخلصت إلى:
" ضرورة استغلال الولايات المتحدة لترسانتها النووية كي تصوّر نفسها غير عقلانية، وانتقامية، إذا ما هوجمت مصالحها الحيوية . ينبغي أن يكون هذا جزءاً من الشخصية القومية، التي نبرزها لجميع الخصوم وخاصة الدول المارقة... من المؤلم أن نصوّر أنفسنا بأننا عقلانيون بشكلٍ كامل، ومسالمون، ناهيك عن التزامنا بتلك السخافة التي تُدعى القانون الدولي، والتزام المعاهدات... إن الحقيقة أن بعض عناصر الحكومة الأميركية يمكن أن يظهروا أنهم "خارج السيطرة " وسيكون هذا مفيداً لخلق وتدعيم مخاوف وشكوك، في أذهان صانعي قرارات الأعداء".
من نيكسون إلى ريغان فبوش الأب و الإبن، إلى ترامب كنا دوماً إزاء بلطجة وتحامُق مارسهما اليمين الأميركي العنصري والأصولي المتطرّف المتشبّع بالخرافات الصيومسيحية والصهيويهودية. هؤلاء يعتبرون القوانين والاتفاقات الدولية سخافة ولا يرون من داعٍ لمؤسسات دولية كالوكالة الدولية للطاقة النووية أو المحكمة الدولية أو اليونيسكو أو الأونروا أو حتى مجلس الأمن. فالشرعية الدولية بالنسبة لهم هي ما يرونه ويؤمنون به.
حينما تُفصح الإدارة الأميركية الحالية عن كل هذه الوقاحة والتحامُق وتسعى إلى نشر الفوضى في العالم وتمارس إرهاب دولة وتعلن العصيان على الشرعية الدولية فمن الحمق بالنسبة لباقي دول العالم الوقوف متفرجين على هذه العربدة.
أميركا تحاول جاهدة منع انهيار نظام عالمي وحيد القطبية الذي تترأسه و منع قيام نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب. هي تحاول إنقاذ نظامها الاقتصادي النيوليبرالي المأزوم الذي عولم الفقر والأزمات، بالحروب وزع الفتن والفوضى للهيمنة على مقدّرات الشعوب وثرواتهم. ومن العبث ترك أميركا ترامب تقرّر مصير العالم ومستقبل البشرية كما تشاء.