سيرغي سكريبال حكاية جاسوس

ما من مصلحة خفيّة أو مُعلَنة لروسيا من قتل سكريبال. يبقى الرابِح الوحيد مما يحدث الولايات المتحدة الأميركية. أما بريطانيا فقد كشفت قدرة تأثيرها على الغرب، وعلى حلفائها، ومدى استعدادهم لمُعاداة روسيا.

لم ينفِ سكريبال تهمة التجسّس عندما قدم للمحاكمة

ولِدَ سكريبال في الـ23 من شهر حزيران/يونيو عام1951. تتحدّث المعلومات الشحيحة عنه بأنه بعد تخرّجه من الأكاديمية الدبلوماسية العسكرية، أُرسِل مطلع تسعينات القرن الماضي مُلحقاً إلى مالطا، حيثُ بقي هناك حتى قرّرت المخابرات الروسية عام 1994 نقله إلى العاصمة الإسبانية مدريد، كمّلحق بأمن السفارة الروسية هناك. بطريقة ما استطاع جهاز المخابرات البريطاني (إم آي 6) تجنيده في العام1995. كان تقصيره في عمله سبباً دفع موسكو لاستدعائه عام 1996، حيث عمل في الأكاديمية الدبلوماسية العسكرية، والخارجية الروسية حتى عام 2003. بعد ذلك ألقت السلطات الروسية القبض عليه عام 2004، بعد الكشف عن اتصالاته عبر عملاء في المخابرات البريطانية في سفارة لندن في موسكو باستخدام جهاز إلكتروني مُتطوّر.

لم ينفِ سكريبال تهمة التجسّس عندما قدم للمحاكمة. وهكذا حَكم القضاء الروسي عليه عام 2006 بالسجن لمدة 13 عاماً بجُرميّ التجسّس والخيانة. نال سكريبال عفواً رئاسياً في عهد الرئيس الروسي ديمتري ميدفيدف، وتم نقله في إطار صفقة ضخمة لتبادل الجواسيس مع الولايات المتحدة، حيث وافقت واشنطن على إرسال عشرة جواسيس إلى روسيا، مقابل الإفراج عن أربعة مساجين كانوا ينفذّون أحكاماً بالسجن في موسكو.

واعتبرت تلك العملية أكبر تبادل بين البلدين منذ انتهاء الحرب الباردة في عام 1991، وتمّت على مدرج مطار فيينا الدولي حيث توقّفت طائرتان روسية وأميركية جنباً إلى جنب لإنجاز العملية.

في الرابع من شهر آذار/مارس2018 عُثِرَ على سكريبال وابنته يوليا ( 33 عاماً) مُغمى عليهما في الشارع إثر تسميمهما. وتم نقلهما والشرطي الذي عثرَ عليهما إلى مستشفى في سالزبوري جنوب غرب بريطانيا. سارعت بريطانيا على الفور إلى اتّهام روسيا بعملية التسميم مُتهمةً إياها باستخدام غاز "نوفيتشوك" السام المُشلّ للأعصاب.

لا غروَ في سماع هذه القصة في عالم الجاسوسية، إذ إن تجنيد العملاء وتدريبهم واختفاءهم وتصفيتهم أمورٌ مألوفة اعتدنا عليها في هذا العالم. فحرب الجواسيس لم تُخمدْ يوماً بين الدول، غير أنَّ ألسنتها دائماً مقطوعة، فلماذا اختارت بريطانيا العظمى هذه المرة أن تشهر الحرب علناً؟ ولماذا لم تكتفِ عند ذلك فحسب؟! بل ذهبت إلى الحديث عن المادة الخطيرة التي تزعم أن الجاسوس الروسي قد سُمِّم بها، وهي مادة غازية سامّة مُشلّة للأعصاب جرى إتلافها والتخلّص منها!! ولماذا اختارت العلانية في هذا التوقيت تحديداً الذي تستعدّ فيه روسيا لاستقبال كأس العالم، والذي تحتفل فيه أيضاً بالنصر على الإرهاب مع الجيش العربي السوري في سوريا؟ غير أنّ الأخطر من هذا كله هو نشر تفاصيل وتركيبة غاز "نوفيتشوك" السام المُشلّ للأعصاب، الذي اعتبرت روسيا نشره دعماً واضحاً وفاضحاً للإرهاب.

لا مرية أن سيرغي سكريبال لا أهمية له عند الروس وإلا لما حُكِم لمدة 13 سنةً فحسب، هذا أولاً. ثانياً، لو كان مهماً بالنسبة إلى الروس لما وافقت روسيا على إطلاق سراحه في صفقة تبادل الجواسيس ثم تعود لتحاول قتله في 2018. فالجاسوس الخطير إما أن يُقتَل مباشرة، أو يختفي مدى الحياة.

إن الطريقة والمكان اللذان تسمّم فيهما سكريبال يُثيران الريبة. هذا ما أشار إليه الخبير الروسي السابق في اللجنة الأممية المعنية بالأسلحة الكيميائية والبيولوجية السيّد نيكولين، حيث رجّح وقوف كلٍّ من واشنطن ولندن وراء عملية التسميم مُستنداً في ذلك إلى ما يلي:

أولاً: إن عملية إتلاف مخزون مادة "نوفيتشوك" المُشلّة للأعصاب (المُستخدَمة، وفقاً للندن، في محاولة اغتيال سكريبال)، كانت تتم في أراضي جمهورية أوزبكستان السوفياتية عام 1999، تحت إشراف الولايات المتحدة، من دون مشاركة أية دول ثالثة. وقد أخذت واشنطن آنذاك على عاتقها التكاليف المتعلّقة بنقل المواد والعيّنات القيّمة ذات الصلة بغاز "نوفيتشوك" المُشلّ للأعصاب من أوزبكستان "إلى ما وراء المحيط"، لكن لا أحد يعرف حتى الآن أين نُقلِت كل هذه المواد!. يستطرد الخبير الروسي قائلاً: إن تكنولوجيا تركيب هذه المادة وقعت في قبضة الولايات المتحدة لا محال.

ثانياً: إن رفض السلطات البريطانية قبول مشاركة الدولة الروسية في التحرّي عن مُلابسات الواقعة يدعم فرضيّة أن خبراء بريطانيين أو أميركيين هم الذين يقفون وراء محاولة الاغتيال خصوصاً أن مدينة سالزبوري الواقعة جنوب غرب بريطانيا، حيث تم تسميم سكريبال، قريبة من قريةPorton ، التي يوجد فيها واحد من أهم المختبرات العلمية السرّية التابعة لوزارة الدفاع البريطانية.

لا بدّ من التأمّل كثيراً في ما قاله الخبير الروسي عن حيازة الولايات المتحدة وبريطانيا لمكوّنات الغاز السام والقدرة على تصنيعه، إضافة إلى حيثيات مكان التسميم واختيار هذا التوقيت تحديداً.

كذلك، يجب ألاّ نغفل أيضاً أمراً هاماً سبق واقعة محاولة الاغتيال وهو إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن أسلحة جديدة متطوّرة وصواريخ عابِرة للقارات لا يمتلكها أحد في العالم.

هل دفع الخوفُ من القدرات الروسية الجديدة ومن انتصارها في سوريا الغربَ ومن خلفه الولايات المتحدة إلى ابتكار وخلق هذه القضية لإشغال روسيا أو تأخيرها، خصوصاً وهي أمام استحقاق تنظيم المونديال وتخليص سوريا من الإرهاب الذي يدعمه الغرب ويمدّه بكافة وسائل الدعم؟.

لا يُخفى أن روسيا وجّهت صفعات قوية للغرب من خلال قضائها على الإرهابيين في سوريا ووقوفها في وجه القرارات الغربية التي تتّهم الحكومة السورية باستخدام الأسلحة الكيميائية، عِلماً أنّ الأخيرة كانت قد تخلّصت منها تحت إشراف منظمة حظر الأسلحة الكيميائية. من هنا كان سعي الدول الغربية المهزومة على الساحة السورية في صراع التنافُس والهيمنة الدوليّة وتعويض الهزائم أن تردّ الصاع وتشوّه سمعة روسيا وتحاربها بجميع الوسائل. فتُظهر اليوم إلى العلن، بشكلٍ يخالف قواعد العمل الاستخباراتي برمّته، قصة جاسوس سارعت بريطانيا، قبل الشروع بالتحقيق في مُلابسات الحادثة، إلى اتّهام روسيا في محاولة تسميمه، ومن ثم جاءت خطوة طرد ممثلين دبلوماسيين روس من بريطانيا، وتحريض أميركا والغرب الأوروبي على مثل هذه الخطوة التي شوّهت سِمعة الدبلوماسيين الروس ووضعتهم في خانة الجواسيس كافة.

ما من مصلحة خفيّة أو مُعلَنة لروسيا من قتل سكريبال. يبقى الرابِح الوحيد مما يحدث الولايات المتحدة الأميركية. أما بريطانيا فقد كشفت قدرة تأثيرها على الغرب، وعلى حلفائها، ومدى استعدادهم لمُعاداة روسيا. كل ذلك في إطار التشويه والترهيب. وما وصف بوريس جونسن، وزير خارجية بريطانيا، الرئيس بوتين بـ "هتلر الجديد" إلا دليل على ذلك.

قد تتطوّر هذه الخطوات غير الودّية والمُستعجلة إلى خطوات أكثر خطورة تؤخذ بعناية فائِقة. حينها قد يحتاج العالم إلى جيمس بوند حقيقي يُطفئ لهيب حربٍ عالمية تفني البشرية كلها.