الزرع في بغداد والمحصول في "تل أبيب"
كشف غياب سوريا عن المؤتمر أنَّ الهدف الرئيسي ليس فتح صفحة جديدة في الإقليم وتوفر الإرادة الصادقة لمكافحة الإرهاب والتطرف، بل من الجيد أن تبرد الملفات الساخنة ويحصل نوع من التقارب.
استضافت العاصمة العراقيّة بغداد مؤخراً "مؤتمر بغداد للشراكة والحوار"، وهو مؤتمر استثنائي بقيت المعطيات حوله مبهمة إلى يوم انعقاده، وهو يؤشر هذه المرة إلى أنَّ راعي المؤتمر يتمثل بفرنسا العائدة إلى منطقة الشرق الأوسط من بوابة لبنان، والآن العراق.
ما فائدة العراق؟
لا أرى فائدة ملموسة للعراق من هذا المؤتمر والدعوات إلى استثمار أجنبي في البلاد، فهذا يتطلب جهداً حكومياً وأرضية مرحبة بالاستثمار، فكيف تعيد فرنسا أو أي بلد آخر إعادة إعمار سنجار من خلال الاستثمارات، وهي تتعرَّض لاستهدافات تركية عسكرية متكررة؟ وكيف يدخل الاستثمار إلى بغداد والبلد غير مستقر أمنياً وسياسياً؟ وكيف يتم التوافق على مشاريع وخطط في بلد ستتبدل الحكومة فيه بعد أشهر، وقد تكون الحكومة القادمة برؤية اقتصادية مختلفة، لكنَّ العراق، وتحديداً حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، كسبت دعماً واضحاً بالإعلام والمواقف.
أهمية التقارب بين دول الإقليم ومحاربة الإرهاب
كشف غياب سوريا عن المؤتمر أنَّ الهدف الرئيسي ليس فتح صفحة جديدة في الإقليم وتوفر الإرادة الصادقة لمكافحة الإرهاب والتطرف، بل من الجيد أن تبرد الملفات الساخنة ويحصل نوع من التقارب، وهو ما حدث فعلاً بين الإمارات ومصر من جهة، وقطر من جهة ثانية، إضافةً إلى السعودية وإيران.
أما لو كان المراد هو مكافحة الإرهاب والتدخلات الخارجية، فهذا يعني أنَّ سوريا يجب أن تكون أوَّل المدعوين، لأنَّ استقرار المنطقة مرتبط باستقرارها، ولكنها استُبعدت لأنَّ الأولوية ليست الإقليم، كما أن هذا الوقت ليس الوقت المناسب، بالنسبة إلى الولايات المتحدة، لعودة سوريا إلى محيطها، لكن استُغل العراق ضعفاً كأرضية لإطلاق رسائل عالمية.
هل للمؤتمر علاقة بالتطبيع مع "إسرائيل"؟
كلام الرئيس الفرنسيّ عن تقارب الديانات الإبراهيمية خلال زيارته إلى العراق مؤخراً، واستغلال الغرب زيارة البابا فرانسيس إلى العراق للتنظير لمخطط جمع الأديان الإبراهيمية وضرورة التقارب والحوار لضرب التطرّف، يثيران مخاوف من محاولة غربية مبطَّنة لتعويم "إسرائيل"، ديانةً وشعباً وتاريخاً، وهذا بحدّ ذاته نصف تطبيع، على قاعدة أنَّ الحكومات تخطئ وتستغلّ، فبعيداً عما تقوم به "إسرائيل" كسلطة سياسية وأمنية وعسكرية، لكن الزاوية الأخرى تتمثل بأنّها "شريك في تاريخ المنطقة".
يبدو أنَّ فرنسا متحمّسة للتنظير لهذا المشروع، بعد أن أيقنت الولايات المتحدة أن أكثر من ضغوط ترامب لتعويم "إسرائيل" ما عاد ممكناً، وبالتالي إن الدول التي سقطت في مشروعه، كالإمارات والسودان والبحرين والمغرب، تحمَّلت العبء من شعوبها أولاً، ومن المجتمعات العربية ثانياً، أكثر مما انعكس عليها التطبيع تطوراً. لذا، يبدو أنَّ الغرب فتح باباً آخر لـ"إسرائيل" من خلال الحديث عن تقارب "الديانات الإبراهيمية".
لماذا فرنسا في العراق؟
أوصل ماكرون من العراق عدة رسائل، أوَّلها أنَّ فرنسا المنكفئة عن المنطقة منذ عقود موجودة وتبحث عن مصالح اقتصادية عبر الاستثمار في المنطقة. وبعد انشغال الولايات المتحدة بالخطر الصيني الداهم عليها، وملف أفغانستان المعقد الذي يأتي في خضم الصراع الأميركي الصيني، لا بدَّ من دور حليف يحفظ مصالح الولايات المتحدة والقوى الغربية في الشّرق الأوسط.
يبدو أنَّ فرنسا هي الَّتي تقوم بذلك الدور، بدءاً من الملف اللبناني. ورغم أنَّ الرؤية الفرنسية للسيطرة على الأزمة السياسية والاقتصادية في لبنان اصطدمت إلى حدٍّ ما بالرؤية الأميركية - الإسرائيلية، لأن ماكرون اعترف بـ"حزب الله" شريكاً ومكوناً أساسياً ومؤثراً في المعادلة اللبنانية، لكنَّ هذا لا يعني أن فرنسا لا تبحث عن مصالحها ومصالح الغرب في المنطقة.
من جانب آخر، تريد فرنسا أن تكون حائط صدّ أمام المشروع التركي المرتقب في العام 2023، وتحديداً بعد أن ينتهي عمر معاهدة "لوزان"، وتريد أيضاً أن تقول: نحن هنا، ولدينا مصالح، ومن غير المقبول أن تفكّر تركيا في تنفيذ أي أحلام عثمانية في الموصل أو أربيل أو كركوك، ناهيك بدعم فرنسا لقوات سوريا الديمقراطية في سوريا. هذا الأمر يبدو واضحاً من خلال اهتمام الغرب إلى حد كبير بالحفاظ على عدد من المسيحيين في تلك المناطق، لأنهم سيكونون سبباً كافياً حتى تفكّر تركيا أكثر من مرة في الرد الغربي إذا تحركت عسكرياً في شمال العراق.
وعليه، أعتقد أنَّ الرسائل الأميركية والغربية عموماً تتلخَّص في الآتي: يمكن أن تُصلح فرنسا جزءاً من الخراب السياسي الذي انعكس اقتصادياً وأمنياً في الشرق الأوسط كشريك للولايات المتحدة، وهي قوّة تربك التركي، وتشتّت أيّ مخطط في ذهن إردوغان لابتلاع أرضٍ عراقية، كذلك هي رسالة لإيران وروسيا وتركيا التي أخذت مؤخراً تتقرب من روسيا، بأنّ الطريق أمامكم غير معبد، بفعل تواجد فرنسا سياسياً واقتصادياً، وإن انكفأت الولايات المتحدة أو اهتمت بملفات أخرى حول العالم، وهو ما يسهّل عملية الاتفاق على تقسيم النفوذ بما يخدم مصالح الغرب أولاً.
كما أنَّ الحديث المتكرّر غرباً عن تقارب الديانات الإبراهيمية والانطلاق باتجاه الحوار يدفعان عملية التطبيع مع "إسرائيل" خطوات إلى الأمام، بإيجاد مبررات دينية وتاريخية لتقبّل الحالة الإسرائيلية، بعد فشل الخطوات السياسية والاقتصادية للتطبيع.